أطلّ علينا جمال محمد حسنى مبارك، يتحدث إلينا نحن المصريين بلغة غير التى نفهمها، فتخيلته ينادى كل تلك الأرواح الشريرة التى حكمت مصر أو تحكمت بها، سواًء فى زمننا الحاضر أو من الأزمنة الماضية. لقد تجسدت البجاحة والثقة على وجه ذلك الكذوب المغرور حتى لكأنه يجسد مقولة الفاروق عمر رضى الله عنه "عجبت لجلد الفاجر".
لم يكن لجمال، ولم يكن ليكون له فضل أو سبق من علم أو عمل، غير أنه وُلد لرئيس مصر محمد حسنى مبارك، ذلك المستبد الذي كبّل مصر لثلاثين سنة -هى مدة حكمه- ورهن إرادتها بإرادة السياسة الغربية ومصالحها، فضيّع على مصر فرصة حقيقة لتحقيق نهضة شاملة، ففرط فى ثرواتها ومواردها واستباح مع عائلته وحاشيته أموال الوطن والشعب.
بشكل لا لبس فيه، لا يستطيع أحد أن يتخيل حجم الحقد والأسي الذي يملأ قلب هذا البائس، فقد كان قاب قوسين أو أدنى من حكم مصر، أو على الأقل أن يبقى فى أقوى مراكز السلطة والنفوذ والمال. يقول غور فيدال "أن السلطة هي غاية في حد ذاتها. والدافع الغريزي للسيادة أهم سمة إنسانية."
لقد عانى الشعب المصري خلال عقود حكم مبارك، وزادت معاناته خلال العقد الماضي أيضًا بشكل جعله يتمنى لو عاد مبارك بحنكته فى الاستبداد والفساد. دأبت السلطات الحاكمة فى مصر على التوالى، بتحميل تبعات التردي والفشل على الحكومات السابقة. وعلى العكس فمع زيادة الضغوط والمعاناة على الشعب غالبا ما يحن الى الحكومات السابقة الأقل فسادًا.
كان المَلك فى مصر الفرعونية إلهًا منذ بداية النظام الملكى فيها. ولعل لعنة تأليه الحاكم فى مصر الفرعونية لم تفقد الكثير من قدرتها وتأثيرها، وإمتدادها التاريخى فى الوعي الجمعي للمجتمع المصري الذي يميل لتقديس الحاكم أو المسئول مازالت مستمرة. لم تكن الحقبة الملكية ما قبل حركة الضباط 1952 بأحسن حالًا مما آلت إليه الأمور بعد ذلك، ولكننا نري ونسمع بالكثير من الدهشة رغبة ورثة الملكية فى العودة لحكم مصر، ولا يمكننا أن نغفل تأييد البعض لهم، لم يستح هؤلاء من إظهار رغباتهم فى العودة للمشهد، وكأن كل ما يعانيه الشعب المصري من مصائب لا ينقصها سوى هؤلاء الحمقى الذين يظنون أن من حقهم إستعادة مُلكية مصر الأرض والشعب، كما كانت فى عهد الملكية.
لا شك أن تغيرات جوهرية طرأت على بنيان المجتمع المصري، وأن حالة من الانحلال والتردي تهدد بنيان المجتمع وهويته. كانت التغيرات حادة خلال العقد الأخير، ولكنها كانت أكثر عمقًا خلال عقود حكم مبارك وعلى مدار السنين السابقة له.
لقد كفانا مؤرخ مصر الكبير، تقى الدين المقريزى، وصف حالة المجمتع فى مصر وكأنه يراه الآن، فقدّم إلينا فى كتابه "الخطط" وصفًا لعوامل الفساد ومظاهر الإنحلال التى تفشّت فى المجمتع خلال القرن التاسع الهجرى، وسنترك للقارئ تقدير حجم التشابه والاختلاف بين الماضى والحاضر.
يقول: " تقلص ظل العدل، وسفرت أوجه الفجور، وكشر الجور عن أنيابه، وقلت المبالاة، وتعدّدت منذ عهد المحن التى كانت فى سنة ست وثمانمائة الحُجّاب، وهتكوا الحرمة، وتحكموا بالجور تحكمًا خفى معه نور الهدي، وتسلطوا على الناس مقتًا من الله لأهل مصر، وعقوبة لهم بما كسبت أيديهم، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" الخطط للمقريزى الجزء الثاني ص 221.
ويقول محمد عبدالله عنان فى كتابه مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية: " ومن الغريب أنك تجد تماثلًا عظيمًا بين أحوال هذه الطبقات وخلالها فى عصور متباعدة جدًا"، بعدما استعرض وصف بعض المؤرخين لأحوال العامة فى مصر وتسلط الحكام عليهم فى عصور متباعدة، ومنهم ابن خلدون والمقريزى والسخاوى وابن إياس وأخيرًا الجبرتي.
ويضيف عنان: " وتاريخ مصر حافل بالإنقلابات السياسية، وحافل أيضا بالإنقلابات الإجتماعية. ولكن التطور السياسي في مصر، كان في الغالب أسرع وأشد تباينا من تطورها الإجتماعي. وبينما نرى أحدث نظم الحكم والتشريع والاقتصاد، تمثل منذ بعيد في الحياة المصرية العامه أيام الدول الإسلامية، إذا بالتطور الاجتماعي والفكري تنحصر آثاره في أقلية محدودة، هي التي تفوز دائما بأوفر قسط من هذه الآثار. ولكنا نستطيع أن نقول إن الكافة في مصر، قلما تلمس فيهم آثارا محسوسة لهذا التطور الذي يشمل كل مظاهر الحياة العامة، اللهم إلا في فترات متباعدة جدا، وقد تمضى قرون بأسرها، وأولئك الكافة يحتفظون بتقاليدهم وعقليتهم، وقد يرجع ذلك إلى أن طبقات الكافة في مصر، كانت دائما في نظر الملوك والخاصة كمية مهملة، كل ما تصلح له هو أن تغذي جيوش الغزاة بأرواحها، وخزائن الدولة بعملها وكدها. وهي نظرية الملوكية القديمة في كل العصور والأمم. لكن تطبيقها دائما كان أشد وطأة في مصر، التي قُدّر أن يرزح شعبها تحت نير الغزاة والحكام الأجانب دائما، فكان للسلاطين و بطانتهم من الأمراء والحكام والخاصة، كل شيء في الحياة العامة. وكان الكافة أو أبناء البلاد يخضعون لنظم سياسية واجتماعية، تفوق في أحيان كثيرة في الخسف والإرهاق، ما كانت تملى به روح هذه العصور."
لقد جرّفت السلطة الحاكمة فى مصر المجتمع من كل عوامل قوته، فجرفت الحياة السياسية، وأغلقت المجال العام، وحاربت البحث العلمي والإبداع الفكرى، ورسخت لطبقة فاسدة أصبحت جزءًا من جسد المجتمع المصرى يصعب استئصاله، حتى أنها حوّلت المجتمع القائم على الإنتاج الزراعي منذ آلالاف السنين الى حفنة من السماسرة الرأسماليين، فحاربت قيمة الإنتاج ودعمت سياسة الصفقات الرابحة، وتعمدت تسطيح المجتمع على مستنقع من الفساد المالى والإدارى والأخلاقى، وأهدرت المال العام وسمحت بانتهاك سيادة الدولة.
وبعد كل ما سبق، نرى بعض المؤيدين لصوت نشأ فى الظلام وعاش على الفساد ورسخ فى الطغيان، ينادى فى الظلمات، أرواح الطغاة البائدين والباقين. وهنا نتذكر قول البارودى.
وأقتل داء رؤية العين ظالمًا يسئ ويتلى فى المحافل حمده
إن روح التغيير لن تموت، وصوت العقل لن يسكت، والتدافع هو سنة الحياة، مادام فى العمر بقية.