محمد الباز يكتب: لماذا ستلجأ روسيا للسلاح النووي التكتيكى؟ ومتى؟

السبت - 15 أكتوبر 2022

- محمد الباز
( كاتب مصري )

منذ بدأت الحملة الروسية على أوكرانيا فى صباح الخميس 24 فبراير 2022، ومسار الأحداث يسير نحو التصعيد دون توقف. باستثناء جولات المفاوضات فى بيلاروسيا، والمحادثات على مستوى وزراء الخارجية الروسية والاوكرانية، التى تمت فى تركيا على هامش منتدى أنطاليا، والتى صرح وزير الخارجية الروسي بعدها خلال مؤتمر صحفى مطوّل قائلاً "لم نأت إلى هنا لمناقشة وقف إطلاق النار"، والذي سنقف على أبرز تصريحاته لاحقًا.

سوف يتحكم المسار التصاعدي للأحداث على الأرض فى تسلسل القرارات القادمة، ولقراءة متوازنة لهذا المسار وديناميكية حركة هذه الأحداث، لابد من البعد عن ضجيج الإعلام الصاخب بعويل المعسكر الغربي، ومن على شاكلته، ولقد كفانا مؤنة التعليق على التغطية الإعلامية المعيبة لهذه الأزمة، الأستاذ الفاضل محمود عبد الهادي فى مقاله " هل تعود التغطية الإخبارية العربية للهجوم الروسي على أوكرانيا إلى توازنها؟".

أصبحت التحليلات والقراءات السياسية مرهونة بمسار العمليات العسكرية، منذ بداية القتال، هناك ملامح واضحة لطبيعة حركة الجيش الروسي على الأرض، حيث يستهداف البنية التحتية العسكرية من مطارات وغيرها، مع تجنب استعمال الاسلحة الثقيلة والاستراتيجية ويدل على ذلك حجم الدمار وعدد القتلى، لم يستعمل الجيش الروسي الأسلحة الحديثة أو الاسلحة الثقيلة بشكل مكثف بعد.

كان أول تصعيد روسي فى نوعية الأسلحة المستخدمة بعد ثلاثة أسابيع من بداية العملية العسكرية، حيث استعمل لأول مرة في تاريخ الحروب صواريخ فرط صوتية، وهي صواريخ ذات سرعة فائقة وقوة تدميرية هائلة ولا يمكن اعتراضها.

فى الحقيقة أن كل هذه التفصيلات، لن تغيير شيء على الأرض من قواعد السياسة المتجذرة، وقوانين الحرب الراسخة، وكذلك من المطالب الروسية الواضحة والتى من المرجح أنها لن تتنازل عنها.

طغيان الجغرافيا وسيادة المناخ والتضاريس

تقدر المساحة الإجمالية لأوكرانيا بما يقارب 603 آلاف و548 كيلومترا مربعًا، يشق هذه المساحة الطينية أكثر من عشرة أنهار كبيرة، فأوكرانيا تملك ربع أرض التربة السوداء الخصبة في العالم، وتزيد القنوات والترع وممرات المياة من التمزق على هذا النطاق الجغرافي الطينى.

بالتالى يكون الانتقال بين المدن والقرى المنتشرة على هذه الرقعة، عبر الطرق الممهدة على تربة طينية والجسور على ممرات مائية، وهذا ما يجعل القوات المتحركة على هذه الطرق مكشوفة وغير قادرة على ترك الطريق الرئيسي، كما تُعيق عمليات تفجير الجسور من الحركة، وهذه الأسباب تفسر الاصطفاف الطويل للقوات، ما يعيق عمليات الإمداد اللوجيستى، مما يؤدي بالضرورة الى بطء الحركة.

وفق تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية، تحتاج روسيا الى 500 ألف مقاتل حتى تستطيع بسط سيطرتها على أوكرانيا، وهو العدد الذي لم يتوفر منه سوى 150 ألف حسب أعلى التقديرات، ومع تزايد حجم الخسائر البشرية، سوف تلجأ روسيا سريعًا لإستخدام أسلحة أكثر تطورًا وأشد فتكًا.

التهديد الوجودي لبقاء الدولة الروسية

فى صراحة ووضوح شديدين خلال لقاء تليفزيونى للمفكر الروسي أليكسندر دوغين، قال "إما أن تنتصر روسيا أو يزول العالم بالسلاح النووي". ولا عجب من ذلك، فقد سبقه السياسي الأمريكي الكبير البروفيسور جون ميرشايمر حينما حمّل الولايات المتحدة المسئولية عن الحرب، لأن وجود الناتو على حدود روسيا يمثل تهديدًا وجوديًا للدولة الروسية، كان ذلك فى الرابع من مارس الجارى.

أعلن بوتين الحرب على روسيا عندما تخوف من اختلال ميزان القوى العسكرية ضد بلاده على الحدود الروسية مع أوكرانيا، ولكن معدل الخسائر البشرية فى قواته مع استدامة الحرب نتيجة غزارة الإمدادات العسكرية الغربية لأوكرانيا، سوف يدفعه إلى التدرج فى رفع مستوى الأسلحة المستخدمة ضد أوكرانيا، ولكن استنزاف روسيا عسكريا لا يعنى فقط اختلال ميزان القوى العسكري ضدها، وإنما انقلاب ميزان القوى بالكامل ضدها، وهو ما يمثل تهديد وجودي للدولة الروسية.

لن تتردد روسيا حين إدراكها لهذا الخطر "التهديد الوجودي" من استعمال كل ما لديها من قوة لتحييد هذا الخطر، نقلت وكالة تاس للأنباء عن دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين قوله "إن روسيا لن تستخدم أسلحة نووية إلا إذا كان وجودها مهددًا".

ويكفي لإدراك حجم وطبيعة الدعم العسكري الغربي لاوكرانيا ما قاله الكولونيل السابق بالجيش الأميركي "كريستوفر ماير" إن الأسلحة الأميركية التي قُدِّمت لأوكرانيا حتى الآن كافية فقط للسماح للأوكرانيين "بالموت بشكل بطولي".

الموقف الصينى فى ضوء الحِكم القديمة

"اقتل بسيف مستعار" دائما ما تعكس السياسات الصينية صورةً للحِكم الصينية القديمة، هذا عين ما يتحقق الآن أمام أعين الصينيين، العلاقات الصينية الروسية معقدة للغاية، ولكن أحد أهم ملفات الإهتمام المشترك، إضعاف المعسكر الغربي.

ولكن الصين لا تريد روسيا قوية، مايكل بليسبرى، خبير أمريكي متخصص في الشأن الصينى، ينقل على لسان أحد المسئولين السوفيت فى الأمم المتحدة أبريل عام 1969، "أن الصين بدأت القتال ضد السوفيت بشكل مخادع خلال الأزمة الحدودية بينهما 1969، وارتكب خلالها الصينيون فظائع ضد الجنود السوفيت".

سوف تُبقى الصين على سياساتها المتزنة تجاة الأزمة، فمن ناحية تذكر الغرب بتناقضاتها فى نفس الوقت الذي تحافظ فيه على مصالحها الاقتصادية الضخمة معه، ومن ناحية أخرى تستمر فى دبلوماسية الدعم المحدود لروسيا بالشكل الذي يمكن روسيا من مواصلة الحرب تجاه الغرب.

بين خبراء السياسة وبهلوان الغرب

فى تركيا وعلى هامش منتدى أنطاليا، عقد وزير الخارجية الروسي مؤتمر صحفى بعد القمة الثلاثية التى جمعته مع وزيرى خارجية تركيا وأوكرانيا، وكان أبرز ما قاله: "لم نأت الى هنا لنناقش وقف إطلاق النار"، "هذه المفاوضات ليست مسارًا بديلًا عن المفاوضات فى بيلاروسيا"، "الخطر الأمني والاجتماعي واللغوى كان قريبًا من روسيا وواضحًا"، "ابلغنا عن مخاوفنا ولم يرد علينا الغرب سوى بمجرد ورقة مكتوب فيها لا تقلقوا"، "مطالبنا أوكرانيا محايدة منزوعة السلاح".

لا يحتاج لافرووف إلى شهادة خبرة فى الدبلوماسية، ولكن تصريحاته الواضحة لا يقابلها من الجانب الأوكراني سوى استغاثات الرئيس الأوكراني وعويلُه المستمر واستجدائه الغرب، كما أن ثبات الموقف الروسي لا يقابله سوي تباين فى الموقف الغربي وتناقضاته خلال هذه الأزمة. أراد بهلوان الغرب بتشبيه الغزو الروسي لأوكرانيا بما تواجهه اسرائيل الانبطاح الكامل، استجداءًا للمساعدات، ولكن انقلب ذلك عليه، فخسرت اوكرانيا الكثير من التعاطف الانساني معها، والذي مازال مستحقًا، فالتعاطف الإنساني قيمة لا تتجزء ضد كل ما ينتهك حقوق الإنسان.

الخلاصة

لقد وقعت أوكرانيا الدولة والشعب ضحية سياسة حمقاء من الرئيس الأوكراني والغرب المتغطرس، عززت هذه السياسة من إدراكات القادة الروس للتهديد الوجودى المحتمل، أعدت روسيا خطتها العسكرية وفق استراتيجية الزحف البرى التقليدى، وهو ما ضاعف فاتورة الحرب حتى الآن، بفضل الأسلحة الدفاعية الغربية.

نتيجة الخسائر البشرية الكبيرة فى القوات الروسية، والطبيعة الجغرافية والمناخية لاوكرانيا، سوف تزيد روسيا من وتيرة استعمال الاسلحة الثقيلة والاستراتيجية، والتي ستخلف دمارًا هائلًا فى البني التحتية وعددًا كبيرًا من الخسائر البشرية، على أمل استسلام اوكرانيا قبل أن تضطر روسيا لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية تقضي على آمال الأوكرانيين وتمحو فرص المقاومة وكل ما من شأنه رفع الروح المعنوية للاوكرانيين.