من الميدان إلى الشاشة.. كيف صورت الدراما مجزرة رابعة العدوية؟!

الأحد - 10 آغسطس 2025

- حنان عطية
( كاتبة صحفية )

حنان عطية

بعد مرور اثني عشر عامًا على مجزرة رابعة العدوية، تظل الذكرى عالقة في الوجدان المصري كجرح لم يندمل، وكشاهد صامت على فجوة عميقة بين الواقع والفن، فكما أخفقت العدالة القضائية في محاسبة الجناة، أخفقت العدالة الفنية في تقديم رواية تليق بضخامة الحدث وتأثيره على المجتمع المصري.

اذ لم يكن اختفاء "رابعة" من المشهد الفني المصري مجرد صدفة أو نتيجة طبيعية لتغير اهتمامات الجمهور، بل كان جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي، ومحو كل ما لا يتوافق مع رواية الطغاة الذين أرادوا لها أن تثبت في الأذهان. 

في أي مجتمع يمر بأزمة وجودية، كالتي شهدتها مصر عام 2013، يُفترض أن يكون الفن مرآة تعكس الصدمة، وتساعد الناس على فهم ما حدث، وتقديم مساحة للحوار والشفاء، لكن ما حدث في مصر كان العكس تمامًا؛ فقد تحول الإنتاج الفني إلى ورشة عمل لترسيخ سردية واحدة، سردية القاتل المنتصر، في حين تم محو الضحايا من الذاكرة الجمعية.

 لم يقتصر الأمر على التعتيم الإعلامي، بل امتد إلى صناعة الفن نفسها، حيث أصبحت الأعمال الدرامية والسينمائية أداة لتبرير العنف وتزييف الحقائق، فلو أردنا أن نستعرض الأعمال الفنية التي تناولت أحداث رابعة العدوية، سواء بشكل صريح أو رمزي، لوجدنا أنها نادرة للغاية، ولا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

وهذه الأعمال -على قلتها- إما تبنت الرواية الانقلابيه التي تصف المجزرة كـ"مواجهة للإرهاب"، أو لجأت إلى الرمزية المبهمة خوفًا من المنع والمصادرة، وحتى المحاولات الرمزية لم تسلم من الرقابة، كما حدث مع فيلم "بيكيا" (2021)، الذي واجه عراقيل غير معلنة بسبب تلميحاته للفساد الأمني، أو مسلسل "الخريف" الذي أُجهض قبل عرضه لأنه اقترب من موضوع الربيع العربي.

كتابة التاريخ بالفن الزائف

المفارقة الأكثر قسوة ليست في منع الأعمال الناقدة فحسب، بل في إنتاج أعمال فنية موازية تعيد كتابة التاريخ بطريقة مزيفة، ففي حين يتم حذف مشاهد الاعتقال السياسي أو القمع من الأفلام والمسلسلات، كما حدث في فيلم "بحبك" (2017)، نرى إنتاج أعمال مثل مسلسل "الاختيار" (2020)، الذي يقدم رواية الأجهزة الأمنية كحقيقة لا تقبل النقاش. 

هنا لا يقتصر الأمر على إفراغ الفن من أي صوت معارض، بل يتم ملء الفراغ بسردية بديلة تشرعن العنف وتحمّل الضحايا مسؤولية موتهم، ولذلك نحن أمام جريمة مزدوجة: محو الذاكرة، واستبدالها برواية مزورة تخدم السلطة الانقلابية.

إسكات محاولات شجاعة

القلة القليلة من الأعمال التي تجرأت على الاقتراب من الخط الأحمر لم تأتِ من داخل المنظومة الفنية التقليدية، بل من هامشها أو من خارج مصر تمامًا، ومنها فيلم "يوم الدين" (2018) لمحمود حمدي، على سبيل المثال، الذي اضطر إلى استخدام الرمزية المفرطة والتصوير خارج مصر لتجنب المصادرة.

 أما الأعمال الأجنبية التي تناولت رابعة، مثل الوثائقي "رابعة" (2018) أو المسلسل التركي "الخندق" (2020)، فقد صورها النظام الانقلابي على أنها "جزء من مؤامرة خارجية ضد مصر"، مما أدى إلى منعها وتشويه سمعتها.

هذا التحول جعل الفن ساحة حرب وجودية، حيث أصبح أي عمل لا يخدم الرواية الانقلابيه تهديدًا يجب تحييده، ولم يعد الخوف مقتصرًا على الرقابة المباشرة، بل تحول إلى رقابة ذاتية يمارسها الفنانون على أنفسهم بسبب سيطرة سلطة الانقلاب على شركات الإنتاج وقنوات البث، إذ لم يعد المبدع بحاجة إلى تلقّي تعليمات مباشرة ليُعرف ما هو مسموح وما هو ممنوع.

خطأ الطغاة التاريخي

لكن الخطأ التاريخي الذي يكرره الطغاة هو اعتقادهم أن بإمكانهم محو الذاكرة الجماعية بهذه السهولة، فقد تنجح السلطة في منع ذكرى "رابعة" من الظهور على الشاشات، لكنها لن تستطيع محوها من عقول وقلوب الذين عاشوا تلك الأحداث، أو من ذكريات الأسر التي فقدت أحباءها، والدماء التي سالت في الميدان لن يمحوها صمت الفن، ولن ينساها التاريخ.

اليوم، بينما تستمر السلطة في فرض روايتها، يظل السؤال: إلى متى سيستمر هذا الصمت؟ ومتى سيكون للفن المصري الشجاعة ليعكس الحقيقة كاملة، لا أن يكون مجرد أداة في يد القوة الظالمة؟
حتما سوف يأتي اليومٌ الذى ستُفتح فيه الأرشيفات، وتُروى القصص كما حدثت، ويعاد الاعتبار للضحايا، وحتى ذلك الحين، ستظل رابعة العدوية جرحًا مفتوحًا في ضمير الأمة، وشاهدًا على أن الفن الذي يخون الحقيقة ليس فنًا، بل هو مجرد دعاية.