عندما تكون الانتقائية ضرورة إعلامية: غزة نموذجًا لكسر الهيمنة
الاثنين - 30 يونيو 2025
حنان عطية
منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، ذلك العمل الملحمي الذي غيّر مجرى الأحداث في العالم، تقدّمت غزة والقضية الفلسطينية إلى صدارة الخريطة الإخبارية العالمية.
ورغم محاولات الغرب طمس الحقيقة في بداية الحدث، ووصف "الطوفان" بالإرهاب أو القرصنة، إلا أن "الطوفان" نجح في كشف زيف الرواية الصهيونية، وأظهر الكيان الصهيوني على حقيقته: قاتلًا للأطفال والنساء أمام أعين العالم.
ولم تنجح رواية "الطوفان" في الوصول إلى الجمهور العربي والإسلامي وحده، بل نجحت في اختراق جدار الجمهور الغربي، حيث انتصرت غزة وفرضت روايتها، محطمة أكاذيب "الكيان" الذي ظلّ لعقود يستدر عطف العالم بادعاءات "الهولوكوست"، واليوم أصبحت الرواية الصادقة تفضحه وتصنّفه "نازيًا جديدًا" يرتكب مجازر تفوق في وحشيتها أساطير "الهولوكوست"!
أما على مستوى الجمهور العربي، فقد أحدثت رواية "غزة الطوفان" تغييرًا حقيقيًا في تحديد الأولويات، لتصبح غزة على قمة الاهتمام الإعلامي لهذا الجمهور الذي لم يعد قادرًا على الانصراف عن أخبارها، فكلما جاء من الأخبار ما يشغل الجمهور العربي، عاد معتذرًا لغزة ليعيد وضعها على قمة اهتمامه الإخباري.
فالأحداث العالمية بعد الطوفان لم تعد سوى تبعات للزلزال الكبير "طوفان الأقصى"، وكأمواج البحر تتدفق بلا توقف، تهزّنا لتذكّرنا بوجودها، لكننا، كمن يؤمن بـ"العُقدة الفضية" للقضية الفلسطينية، نختار غزة وأخبارها الساخنة والباردة كخيار أول، لتلامس هذه الانتقائية شغف القلوب وارتباط المصير، لتكون أولوية قبل أن تكون اختيارًا.
الانتقائية بين الجريمة والضرورة
ينتقد البعض فكرة الانتقائية الإعلامية، رغم أنها قاعدة عملت بها المؤسسات الإخبارية منذ نشأتها، لكنها تصبح جريمة حين تُستخدم للتعتيم على حق الجماهير في المعرفة، حيث يُفرض على الجماهير أخبار غير ذات جدوى أو أهمية، ويتم إهمال أخبار ذات صلة بقضايا تتطلب التضامن أو الحذر، ورغم هذا الاستخدام الخاطئ للانتقائية، فهل هناك استخدام نافع لها؟
الحقيقة أن هناك انتقائية تحمي الجماهير من التشتت أمام سيل الأخبار الجارف، أو من حرب نفسية تُضعف إيمانهم بقدرتهم على التحدي، وهو ما يمكن أن نسميه هنا "الانتقائية الوقائية"، فالجمهور العربي اليوم يعاني من "إرهاق الأخبار" بسبب التصريحات المتبادلة التي لا تُترجم إلى واقع، كتهديدات نتنياهو لإيران أو العكس، أو حتى لفت الأنظار إلى أحداث لا تمثل أهمية حقيقية للجمهور العربي، وهو ما يطرح سؤالًا حول معايير الانتقائية المفيدة التي يمكن أن تصب في صالح الجمهور وتخلق وعيًا صحيحًا لديه.
معايير الانتقائية المنحازة لغزة
ويمكن أن نحدد عددًا من المعايير والاعتبارات التي تقودنا إلى الانتقائية النافعة للجمهور، والتي تنحاز إلى القضايا المهمة والمؤثرة، والتي تأتي على رأسها الأحداث في غزة، ومن ذلك:
- تغيير الواقع: أن يكون الخبر معبّرًا عن حدث مؤثر ويغير الواقع، مثل التطورات الميدانية (وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى).
- الابتعاد عن الإثارة: من خلال تصفية الضجيج وتجنّب تضخيم أخبار بلا قيمة عملية.
- الحلول والبدائل: التركيز على المواد التي تطرح سيناريوهات للتعامل مع الأزمات، لا على التهديدات المجرّدة.
- القيمة المضافة: أن تقدم المادة الإعلامية معلومات جديدة تمثل قيمة مضافة للحدث.
- التحليل العميق: أن تكشف المادة الإعلامية الأجندات والأبعاد الخفية للحدث.
- تجنّب التكرار: الانصراف عن الأخبار والتصريحات المكرّرة التي لا تعبّر عن فعل جديد.
الإعلام العربي وتحييد الحروب النفسية
ومن المهم الوقوف على دقة الصحفي أثناء انتقائه للأخبار ذات الصلة بالحدث، حيث ينتبه للأخبار والتصريحات التي تقع في دائرة الحرب النفسية، والتي يُسرّبها الاحتلال لتثير الذعر لدى الجمهور العربي، حتى لا يكون الصحفي أداة مجانية لتحقيق أهداف الاحتلال، وهو ما يجعل الانتقائية المنحازة لغزة في هذه الحالة ليست خيارًا فحسب، ولكنها واجب إنساني وعقدي، وذلك من خلال التركيز على:
● عدم تضخيم التصريحات دون سياق، مثل ذكر تاريخ التهديدات غير المُنفَّذة.
● التنبه للأجندات الخفية لإعلام العدو، حتى لا نقع في إكساب الاحتلال شرعية أو رفع شعبية المعتدين.
● الابتعاد عن العناوين المثيرة المنقولة من إعلام الاحتلال، مثل الحديث أن "جيش الاحتلال على وشك تدمير غزة"، أو نشر تصريحات مثيرة في توقيت مفاوضات الهدنة.
● استخدام البيانات لتفنيد تهويل إعلام الاحتلال، مثل الادعاءات القديمة بأن جيش الاحتلال لا يُقهر.
● تنبيه الجمهور لأهداف الإعلام الصهيوني، الذي يسعى بشكل واضح لبث الذعر وشلّ حركة الشعوب، وجرّ الإعلام العربي لتضخيم روايته، وهو ما يستوجب على الصحفي العربي الناجح تحويل التصريح الصهيوني من سلاح نفسي إلى فرصة لتعزيز الوعي، عبر عدد من الوسائل منها:
- الانتباه إلى السياق الذي يخرج فيه الخبر.
- كشف أجندة إعلام الاحتلال.
- استخدام لغة موضوعية مقنعة للجمهور.
- تمكين الجمهور بمعلومات تقاوم حالة الذعر.
في الختام، تمثل الانتقائية الإعلامية سلاحًا ذا حدين، لكن توجيهها بوعي ومسؤولية يجعلها أداة فعالة في خدمة القضايا العادلة، وعلى رأسها قضية غزة، فحين يُمارس الإعلام العربي دوره بمهنية وانحياز واعٍ للحق، يتحول من ناقل للحدث إلى فاعل فيه، يعزز الوعي، ويواجه التضليل، ويمنح الجماهير بوصلة دقيقة في زمن التلاعب بالسرديات.