عرّاب الانقلابات ومُمول أمراء الحرب: "نيويورك تايمز" تكشف الوجه الخفي لمنصور بن زايد

الأحد - 6 يوليو 2025

  • رجل الظل داخل عائلة آل نهيان... الأكثر تأثيرًا رغم الحضور الضعيف إعلاميًا
  • يتصدر حملة الإمارات العدوانية لتوسيع نفوذها في إفريقيا والشرق الأوسط
  • تحول من شخصية رياضية إلى لاعب أساسي في الصراعات المسلحة بالمنطقة
  • موّل المتمردين في دول عربية ودعم الحكام المستبدين لضرب الحركات الإسلامية
  •  اتهمته محاكمات أمريكية وماليزية بالتربح من أكبر عمليات احتيال مالية في العالم
  • اشترى "مانشستر سيتي" كجزء من مشروع ضخم لبناء نفوذ عالمي عبر كرة القدم
  • استخدم النادي الإنجليزي في حملات ضغط سياسي وإعلامي ضد خصوم الإمارات
  • حاول التمدد إلى الإعلام البريطاني فقطعت حكومة المملكة المتحدة الطريق عليه
  • تمويل الإمارات لـ"ترامب" أسكت الانتقادات الغربية بتمويل الإبادة في السودان

 

إنسان للإعلام- قسم الترجمة:

في تحقيقٍ استقصائيٍّ موسّع، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز"، بتاريخ 29 يونيو 2025، عن الدور الخفيّ للشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الإمارات، ومالك نادي "مانشستر سيتي"، الذي تحوّل من شخصية رياضية إلى عرّابٍ لحروبٍ وصراعاتٍ في السودان وليبيا، من خلال دعمٍ مباشرٍ لأمراء الحرب، وتنسيق عمليات تسليحٍ وتمويلٍ عبر شبكاتٍ سرّية.

ورغم نفي أبو ظبي مرارًا ضلوعها في أيّ دعمٍ عسكريٍّ لطرفَي الحرب السودانية، فإن تحقيق "نيويورك تايمز" استند إلى مصادر استخباراتية أمريكية، وبيانات اعتراض اتصالاتٍ هاتفيةٍ مباشرة بين الشيخ منصور وقادة الميليشيات، كاشفًا عن علاقةٍ معقّدةٍ بين الإمارات وميليشيا "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكذلك مع خليفة حفتر في ليبيا.

وقالت "نيويورك تايمز": إن "الشيخ منصور دلّل أمراء الحرب والحكّام المستبدّين كجزءٍ من حملةٍ إماراتيةٍ شاملةٍ للاستحواذ على الموانئ والمعادن الاستراتيجية، ومواجهة الحركات الإسلامية، وترسيخ مكانة الدولة الخليجية كقوةٍ إقليميةٍ مهمّة".

وشرحت "نيويورك تايمز" كيف كان الربيع العربي عام 2011 نقطة تحوّل لعائلة آل نهيان، إذ خشي الإماراتيون من صعود الإسلاميين بعد سقوط الحكّام المستبدّين، وأخبر الشيخ محمد بن زايد المسؤولين الغربيين بمخاوفه من سيطرة الإسلاميين، وتعهد بوقفهم في مسارهم؛ لذا تدخّلت الإمارات في مصر واليمن وليبيا، من خلال دعم السيطرة العسكرية، أو تمويل المتمردين، وعقد تحالفاتٍ مع أمراء حرب.

منسق الحروب الخارجية للإمارات

وجاء في نص تحقيق "نيويورك تايمز" ما يلي: يُعرف نائب رئيس الإمارات بكونه مالكًا لنادي "مانشستر سيتي"، أحد أبرز أندية كرة القدم الإنجليزية، أكثر من أي شيء آخر، لكن خلف الكواليس، يوصف بأنه "المنسق" الذي يوجّه الحروب الخارجية التي تخوضها بلاده.

قبل أسابيع من اشتعال الحرب الأهلية في السودان، استقبل أحد أغنى رجال الشرق الأوسط، الشيخ منصور بن زايد، أحد مهندسي الفوضى، في قصره الفخم المطلّ على الخليج.

يُعرف الشيخ منصور، الشقيق الأصغر لحاكم الإمارات القوي، بجمعه لليخوت الفاخرة والخيول السبّاقة، وربما يُعرف أكثر بكونه مالك نادي "مانشستر سيتي" الإنجليزي الناجح للغاية، وقد حصل فريقه في نيويورك العام الماضي على موافقة لبناء ملعب كرة قدم بقيمة 780 مليون دولار في حي كوينز، وهو الأول من نوعه في المدينة.

ولكن في فبراير 2023، استضاف الشيخ منصور علنًا قائدًا سيئ السمعة من صحارى غرب السودان، وصل إلى السلطة عبر انقلاب، وجمع ثروة من تجارة الذهب غير المشروعة، وتُوجّه إليه اتهامات بارتكاب فظائع واسعة النطاق.

كان الرجلان يعرفان بعضهما جيدًا؛ إذ استضاف الشيخ منصور القائد السوداني، الفريق محمد حمدان دقلو، قبل عامين في معرض أسلحة بالإمارات، حيث تجوّلا معًا بين صواريخ وطائرات مسيّرة.

وقد ساعد الشيخ منصور الجنرال حمدان في خوض الحرب الأهلية عندما اندلع الصراع في السودان في أبريل 2023.

أنشأت جمعيات خيرية يسيطر عليها الشيخ منصور مستشفى، وقالت إنها تعالج المدنيين، لكن ذلك الجهد الإنساني كان غطاءً لمحاولة سرية إماراتية لتهريب الطائرات المسيّرة وغيرها من الأسلحة القوية إلى قوات الجنرال حمدان، المعروفة باسم قوات "الدعم السريع"، بحسب مسؤولين أمريكيين وأمميين.

وقد ظهرت أدلة كثيرة على ارتكاب قوات الجنرال حمدان مجازر وجرائم اغتصاب جماعي وإبادة جماعية، ورغم نفي الإمارات تزويد أي طرف في الحرب بالأسلحة، فإن الولايات المتحدة اعترضت مكالمات هاتفية منتظمة بين الجنرال حمدان وقادة إماراتيين، بمن فيهم الشيخ منصور، وساعدت تلك المعلومات الاستخباراتية المسؤولين الأمريكيين على الاستنتاج بأن الشيخ الإماراتي، الذي يبدو متواضعًا، لعب دورًا مركزيًا في تسليح قوات الجنرال حمدان، مما أجّج صراعًا مدمرًا أدى إلى المجاعة وأكبر أزمة إنسانية في العالم.

لقد ظل الشيخ منصور لغزًا محيرًا، وأظهر قدرة تشبه الحرباء في التخفي وتغيير ألوانه، وكان مغمورًا في ظل إخوته الأكثر شهرة ونفوذًا، على الرغم من امتلاكه لأحد أشهر أندية كرة القدم في العالم.

لكنه يوصف بأنه يتصدر الحملة الإماراتية العدوانية لتوسيع نفوذها في إفريقيا والشرق الأوسط، بحسب مقابلات أُجريت مع أكثر من اثني عشر مسؤولًا أمريكيًا وأفريقيًا وعربيًا.

ويقول هؤلاء المسؤولون إن الشيخ منصور دلّل أمراء الحرب والمستبدين في أماكن مثل ليبيا والسودان، كجزء من مسعى إماراتي واسع النطاق للاستحواذ على الموانئ والمعادن الاستراتيجية، ومواجهة الحركات الإسلامية، وترسيخ مكانة الدولة الخليجية كقوة إقليمية ثقيلة.

وقد نحت الشيخ منصور لنفسه دورًا قويًا بهدوء لدعم القوة الناعمة للإمارات من خلال كرة القدم، وفي الوقت ذاته عزز علاقاته مع قادة مسلحين في بعض أكثر دول العالم هشاشة، بحسب المسؤولين، بينما كان شقيقه الحاكم الحاسم لدولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، يقود هذه السياسات بلا شك.

ويقول أندرو بي. ميلر، وهو دبلوماسي أمريكي كبير سابق: "إنه المُصلح، المُنسّق، ذلك الذي يُرسل إلى أماكن لا تحظى بالكثير من البريق أو الاهتمام الإعلامي، لكنها ذات أهمية بالغة للإماراتيين... ويبدو أن هذا هو مجاله الخاص"، وقد وصفه ما لا يقل عن ستة مسؤولين آخرين بالطريقة نفسها.

وظل الشيخ منصور إلى حد كبير بعيدًا عن الأضواء في الغرب، حيث نادرًا ما يلتقي بدبلوماسيين غربيين، ولا يتحدث إلى الصحفيين، ونادرًا ما حضر مباريات نادي "مانشستر سيتي"، الفريق الشهير الذي يملكه.

وقد نجا من أي مساءلة عندما تورطت مشاريعه في تهم دولية تتعلق بالفساد أو انتهاك حظر الأسلحة، لكن تلك الحصانة الذهبية بدأت تتصدع الآن، ففي العام الماضي، أقرّت الحكومة البريطانية قانونًا منع الشيخ منصور فعليًا من الاستحواذ على صحيفة عريقة، خشية أن يؤثر ذلك على حرية الصحافة.

كما كشفت محاكمات في الولايات المتحدة وماليزيا عن اتهامات بأن الشيخ منصور حقق أرباحًا من فضيحة 1MDB، وهي واحدة من أكبر عمليات الاحتيال المالي في العالم.

الإمارات تموّل الإبادة في السودان

بحسب "نيويورك تايمز"، أدّت الحرب المتفاقمة في السودان، وهي صراع شاسع أودى بحياة أكثر من 150 ألف شخص وشرّد أكثر من 12 مليونًا، إلى توجيه اتهامات بأن الإمارات تموّل إبادة جماعية.

وقد دعا مشرّعون ديمقراطيون إلى حظر بيع الأسلحة الأمريكية للإمارات، وباتت الجوهرة الرياضية للشيخ منصور تحت الحصار الآن، حيث تنظر هيئة بريطانية حاليًا في اتهامات واسعة النطاق بأن نادي "مانشستر سيتي"  ارتكب عمليات غش مالي على نطاق واسع، إذ اتهمت رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز الفريق بالتلاعب بحساباته المالية لتمويل صفقات شراء لاعبين نجوم، مكّنوا النادي من سلسلة انتصارات مذهلة، حوّلته من فريق متعثّر إلى ظاهرة رياضية عالمية.

وينفي نادي "مانشستر سيتي" هذه الاتهامات، لكن إن ثبتت صحّتها، فقد يُغرَّم الفريق أو يُطرد من الدوري أو تُسحب منه ألقابه العديدة.

كما أن هذه القضية تُمثّل لحظة مواجهة للشيخ منصور، الذي باتت تعاملاته الآن تحت مجهر التدقيق الذي طالما تجنّبه، ومهما كانت نتيجة الحكم، فإن القضية تثير احتمالًا بأن السرّية المطلقة التي تمتع بها، والمدعومة بتدفّق مالي لا ينضب على ما يبدو، قد تكون على وشك نهايتها.

عصابة الستة التي تحكم الإمارات

تقول "نيويورك تايمز": قبل جيلين، كان معظم سكان ما يُعرف اليوم بدولة الإمارات من مزارعي التمر، ورعاة الإبل، وصيّادي اللؤلؤ، لكن اكتشاف النفط في ستينيات القرن الماضي أطلق تحوّلًا مذهلًا بدأ في مدينة دبي، حيث شُيّدت ناطحات السحاب الزجاجية وسط الصحراء، وأُقيمت منحدرات تزلج تمر داخل مراكز التسوق، مما حوّل المدينة إلى نموذج صارخ للبذخ النفطي، فيما تحوّلت العاصمة الأكثر تحفظًا، أبو ظبي، إلى مركز مالي عالمي وقوة صاعدة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وقد أصبحت المدينة مركزًا استثماريًا عالميًا إلى درجة أنها تُسوّق لنفسها باعتبارها "عاصمة رأس المال".

وهناك عائلة واحدة تجلس على قمة هذه المنظومة؛ إذ تُعد عائلة آل نهيان من أبو ظبي ثاني أغنى عائلة في العالم بعد عائلة والتون الأمريكية، بحسب بعض التقديرات. وتحكم دولة الإمارات منذ استقلالها عام 1971، ويتمركز نفوذها في مجموعة تُعرف باسم "أبناء فاطمة"، وهم ستة أبناء للزوجة المفضّلة للمؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ويهيمن على المشهد ثلاثة من هؤلاء الإخوة.

الأخ الأكبر، الشيخ محمد بن زايد، البالغ من العمر 64 عامًا، والمعروف اختصارًا بـMBZ، هو الحاكم الفعلي للدولة منذ أكثر من عقدين، ويليه الشيخ طحنون بن زايد، البالغ من العمر 56 عامًا، وغالبًا ما يُشار إليه بلقب "شيخ التجسس"، وهو مستشار الأمن الوطني، يرتدي نظارات شمسية، ويعشق اللياقة البدنية، ويمارس الشطرنج على متن يخته الفاخر، وقد توطدت علاقته بمؤسس شركة ميتا، مارك زوكربيرغ، من خلال رياضة الجوجيتسو.

أما الشيخ منصور، ثالث أقوى الإخوة، فيحافظ على حضور أقل بكثير من الآخرين، فهو نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس الدولة، ويتحكم في مؤسسات رئيسية مثل البنك المركزي الإماراتي، وشركة النفط الوطنية، والهيئة القضائية الجنائية في أبو ظبي.

كما يرأس مجلس إدارة "مبادلة" صندوق الثروة السيادي سريع النمو، الذي تبلغ قيمته 330 مليار دولار، ويستثمر في مجالات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات وسياحة الفضاء.

إنه شخصية محورية في جهود بلاده لاكتساب نفوذ عالمي من خلال القوة الناعمة، بما في ذلك السعي لبناء إمبراطورية إعلامية؛ فقد تعاون مع شبكة "سكاي" البريطانية و"سي إن إن" لإطلاق قنوات ومواقع إلكترونية ناطقة بالعربية، وخصّص مليار دولار لصالح جيف زوكر، الرئيس السابق لشبكة "سي إن إن"، لشراء مؤسسات إعلامية حول العالم.

في العلن، يميل الشيخ منصور إلى البقاء على الهامش، وغالبًا ما يُشاهد وهو يرعى فعاليات إماراتية تقليدية مثل سباقات الهجن ومهرجانات التمور، وتكاد تصريحاته تُعرف بمدى حيادها وتكرارها.

لكن في عالم كرة القدم، أصبح الشيخ منصور عملاقًا حقيقيًا، وساهم في إعادة رسم صورة العائلة الحاكمة بعد نكسة كبيرة، ففي عام 2006، قبل عامين من شرائه نادي "مانشستر سيتي"، تلقت الإمارات صفعة علنية حين تم إحباط محاولتها شراء ستة موانئ أمريكية، وسط احتجاج سياسي واسع، رغم تحالفها القوي مع واشنطن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وكانت تلك لحظة مفصلية، دفعت قادة الإمارات إلى إعادة تشكيل صورتهم الدولية من خلال الاستثمار في الثقافة، والتعليم، والرياضة، وكان الشيخ منصور في طليعة هذا التوجه، خصوصًا في مجال كرة القدم.

فبعد ساعات فقط من شرائه "مانشستر سيتي" مقابل 330 مليون دولار، أنفق مبلغًا قياسيًا على لاعب جديد في أول سلسلة من التعاقدات الباهظة التي بلغت كلفتها ما لا يقل عن 3.5 مليار دولار، مما حوّل الفريق إلى قوة كروية ضاربة.

وسرعان ما حصد "مانشستر سيتي " أول بطولة دوري له منذ عقود، ثم توالت الإنجازات، حيث فاز بلقب الدوري الإنجليزي سبع مرات أخرى، إضافة إلى لقب دوري أبطال أوروبا، أكبر بطولة للأندية، وحقق الفريق أرباحًا في عام 2023 بلغت 100 مليون دولار من إيرادات قاربت المليار دولار، مما جعله من بين أكثر الفرق الرياضية ربحًا في العالم.

ومع تراكم البطولات، اشترى الشيخ منصور عددًا من الأندية الأخرى، من بينها فرق في ملبورن، ومومباي، ويوكوهاما.

أما الملعب الجديد لفريقه في نيويورك، "نيويورك سيتي إف سي"، فسيحمل اسمًا مشابهًا: "اتحاد بارك"، وقد سارت دول خليجية منافسة على النهج نفسه، واستحوذت على أندية أوروبية وبريطانية خاصة بها.

كما استُخدم نادي "مانشستر سيتي" لأغراض سياسية أيضًا؛ ففي عام 2014، دعا مسؤولو الفريق عددًا من الصحفيين لحضور إحاطة قدّمها مستشارون يعملون لصالح الإمارات، وركّزت الإحاطة، بحسب صحفي حضرها وملف اطلعت عليه صحيفة "نيويورك تايمز"، على محاولة ربط دولة قطر، الخصم الإقليمي للإمارات، بالإرهاب الدولي بدلًا من مناقشة كرة القدم.

لكن يبقى مدى شغف الشيخ منصور الشخصي بكرة القدم أمرًا غير واضح؛ فمنذ شرائه النادي قبل سبعة عشر عامًا، لم يشاهد الفريق في مباراة تنافسية سوى مرتين فقط، من بينها مرة واحدة في ملعب الاتحاد.

وقد تحوّلت أولويات الإمارات خلال هذه الفترة من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة، ورافق الشيخ منصور هذا التحوّل أيضًا

منصور بن زيد منسق الإنقلابات

وفق تجقيق "نيويورك تايمز"، كان عام 2011، عام الربيع العربي، نقطة تحوّل حاسمة لعائلة آل نهيان، فمع سقوط أنظمة استبدادية في أنحاء الشرق الأوسط، شعرت العائلة بالخطر من أن تكون هي التالية.

وأبلغ حاكم الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، المسؤولين الغربيين أنه يخشى تنامي قوة الحركات السياسية الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وتعهّد بوقفها بأي وسيلة.

تدخلت الإمارات بقوة في دول مثل مصر، وليبيا، واليمن، من خلال دعم انقلابات عسكرية، وتسليح جماعات متمردة، أو إقامة تحالفات مع أمراء حرب لم يخضعوا لأي إصلاح.

 ولإدارة مثل هذه العلاقات المعقدة، كانت هناك حاجة إلى يدٍ حذرة وبارعة، وهنا جاء دور الشيخ منصور، الذي تولّى -بتكليف من شقيقه حاكم الإمارات- مهمة إدارة العلاقات مع "رجال أقوياء غير لائقين وغير مريحين، لكنهم مهمّون"، كما وصفهم أحد المسؤولين الأمريكيين السابقين الكبار.

كان الرجل المُفضّل في ليبيا هو خليفة حفتر، الذي كان في السابق عميلًا لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وقد وعد بملء الفراغ الذي خلفه سقوط العقيد معمر القذافي، وكان الأهم من ذلك أن حفتر يعارض الجماعات الإسلامية.

ولاحظ المسؤولون الأمريكيون أن الشيخ منصور كان يتحدث بانتظام مع حفتر منذ عام 2015 تقريبًا، وتولّى "إدارة" العلاقة بهدوء، بحسب عدد من المسؤولين الأمريكيين، وقال أحدهم: "حينها أدركنا أن الإمارات تراهن على حفتر".

وقد تسبب هذا التحالف في بعض التوتر مع واشنطن؛ إذ تدفقت الأسلحة الإماراتية إلى ليبيا، في انتهاك لحظر دولي على الأسلحة.

ووفقًا لمسؤول أمريكي رفيع، ظهرت أسلحة أمريكية سبق بيعها للإمارات في ليبيا، وقالت وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2020: "إن الإمارات على الأرجح موّلت مرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية للقتال إلى جانب حفتر في هجومه على العاصمة الليبية طرابلس".

ومع ذلك، لم تواجه الإمارات الكثير من الانتقادات العلنية، إذ كانت قد حوّلت انتباهها إلى بلد آخر ذي أهمية استراتيجية هو السودان.

كان الرئيس عمر حسن البشير، الذي تحالف مع الخصم الإقليمي لدول الخليج، إيران، هدفًا استراتيجيًا، وقد كُلّف الشيخ منصور بمحاولة جذبه إلى المعسكر الإماراتي، حسبما أفاد مسؤولون سودانيون وأمريكيون، وتُوّجت سلسلة من الاجتماعات السرّية في عام 2017 بزيارة بارزة للبشير إلى أبو ظبي.

وسرعان ما بدأت المساعدات الإماراتية، بمليارات الدولارات، تتدفّق إلى السودان، بحسب وسائل الإعلام الرسمية الإماراتية، لكن العديد من المسؤولين الأمريكيين شعروا بالصدمة، فقد كان البشير مطلوبًا لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لدوره في الإبادة الجماعية في دارفور قبل عقد من الزمن، لكن الإمارات رأت أن التحالف كان مثمرًا؛ فقد أرسل البشير قوات إلى اليمن للقتال إلى جانب الإمارات والسعودية في حربهما ضد الحوثيين المدعومين من إيران.

وكانت تلك بداية علاقة جديدة؛ إذ أن العديد من الجنود الذين أُرسلوا إلى اليمن كانوا ينتمون إلى قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا شبه عسكرية تم تأسيسها حديثًا آنذاك، بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسرعان ما أصبح الجنرال حليفًا مقرّبًا من الشيخ منصور.

ويقول جيفري فيلتمان، المبعوث الأمريكي إلى القرن الأفريقي بين عامي 2021 و2022: "كنا نعلم دائمًا أن الشيخ منصور هو من يقف خلف الكواليس في ملف السودان".

فضيحة نهب أموال ماليزيا

تابعت "نيويورك تايمز": عندما لا يكون الشيخ منصور منشغلًا بأمراء الحرب أو فرق كرة القدم، تجده ينغمس في رفاهية لا يستطيع تحمّلها إلا أصحاب الثراء الفاحش.

ويمتلك، بحسب العديد من الروايات، عددًا من أكبر اليخوت الفاخرة في العالم، وتُوصَف بأنها قصور عائمة ذات ديكورات داخلية فخمة.

وتقول تقارير من صناعة اليخوت إن أحدث ممتلكاته هو يخت يُدعى "بلو"، وتبلغ قيمته 600 مليون دولار، ويقول البعض إن اسمه مستوحى من ألوان "مانشستر سيتي"، ويبلغ طوله 525 قدمًا، أي أطول بكثير من أي ملعب لعب عليه الفريق يومًا ما.

لفت ذوق الشيخ منصور في اليخوت أنظار الادعاء الأمريكي قبل عقد من الزمن، إذ قال إن منصور موّل يختًا آخر يُدعى "توباز" من عوائد فضيحة 1MDB  سيئة السمعة.

وقالت وزيرة العدل الأمريكية، لوريتا لينش، عام 2016، إن ما لا يقل عن 4.5 مليار دولار من الأموال العامة الماليزية قد تم اختلاسها عبر مخطط مالي معقّد، ووصفت القضية بأنها "أكبر قضية كليبتوقراطية (عمل لصوصي ونهب)" شهدتها الولايات المتحدة على الإطلاق.

وأسفرت سلسلة من المحاكمات الجنائية عن إدانة وسجن رئيس وزراء ماليزيا، نجيب رزاق، بالإضافة إلى اثنين من كبار التنفيذيين في وول ستريت، أُدين أحدهما في مايو الماضي.

ركّز الإعلام في البداية على الأنشطة الصاخبة للممول الهارب "جو لو"، المتهم بتدبير المخطط من خلال تنظيم سلسلة حفلات للمشاهير في لاس فيغاس، وشراء وبيع عقارات في بيفرلي هيلز، ولوحات فنية لبيكاسو ومونيه.

لكن القضية أدت أيضًا إلى تحقيقات في نحو اثنتي عشرة دولة، كشفت في نهاية المطاف عن اتهامات خطيرة ضد مسؤولين إماراتيين كبار، من بينهم الشيخ منصور.

وقدّم الادعاء الأمريكي أدلة في محاكمة جرت في نيويورك عام 2022، تفيد بأن السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، تلقّى رشاوى بقيمة 40 مليون دولار، كما تلقى خُديم القبيسي، الرئيس التنفيذي لإحدى شركات الشيخ منصور، ما يقارب نصف مليار دولار، حسب الادعاء.

ورغم أن الادعاء لم يُحدّد المبلغ الذي تلقّاه الشيخ منصور شخصيًا، إلا أنه صُنّف كـ"متآمر مشارك" في عملية الاحتيال، وأُدرج اسمه، وفقًا لما نقله "جو لو"، على قمة "هرم الرشاوى" في القضية.

كما عرض المدّعون أدلة تُظهر أن 161 مليون دولار من أموال 1MDB  استُخدمت لسداد قرض يخت "توباز"، الذي بلغت قيمته 688 مليون دولار.

وكان الشيخ منصور قد قضى عطلة على متن ذلك اليخت مع نجيب رزاق، زعيم ماليزيا، في جنوب فرنسا عام 2013، وفق ما أدلى به مسؤول ماليزي لمكافحة الفساد أمام المحكمة في يناير، كما استخدم الممثل ليوناردو دي كابريو اليخت ذاته خلال كأس العالم 2014 في البرازيل.

ولم يواجه الشيخ منصور أي تهم مباشرة تتعلق بفضيحة 1MDB، رغم أن شركتين تابعتين له وافقتا في عام 2023 على سداد 1.8 مليار دولار لماليزيا، التي اتهمتهما بتسهيل عمليات الاحتيال.

أما يوسف العتيبة، الذي لا يزال يشغل منصب السفير الإماراتي في واشنطن، فيتمتع بحصانة دبلوماسية تحول دون ملاحقته، بحسب ما أفاد به مسؤولون.

وأُدين السيد خُديم القبيسي، الرئيس التنفيذي السابق لإحدى شركات الشيخ منصور، بتهمة الاحتيال في الإمارات، ويقضي حاليًا عقوبة بالسجن لمدة 15 عامًا، وقال في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" عام 2019 إن الشيخ منصور حمّله المسؤولية وحده، واصفًا نفسه بأنه "كبش فداء".

ورفض الشيخ منصور، والسفير يوسف العتيبة، والممثل ليوناردو دي كابريو، الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بفضيحة 1MDB.  وأعرب العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين شاركوا في التحقيق، وتحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم بسبب القيود القانونية، عن إحباطهم من عدم تعاون الشيخ منصور والإمارات مع التحقيقات.

وتقول كلير ريكاستل براون، مؤلفة كتابين عن فضيحة 1MDB : "هناك ما يكفي من الأدلة التي تشير إلى منصور... لكن من الواضح أن لا أحد يريد أن يقترب منه".

وقال منتقدون إن هذه الحادثة كانت نموذجًا لما يتمتع به قادة الإمارات من امتيازات، حيث إن ثروتهم الهائلة غالبًا ما تحميهم من العواقب.

 وقارنت ستيفاني ويليامز، الدبلوماسية الأمريكية المخضرمة التي قادت بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، سلوكهم بأبطال رواية "غاتسبي العظيم" الخياليين، وقالت ويليامز، مقتبسة من الرواية الأمريكية الكلاسيكية: "يأتون وينشرون الفوضى بأموالهم ولامبالاتهم... ثم يتركون الآخرين ليتولوا تنظيف آثارهم".

كلمة السر: انقلاب الخرطوم

عندما ساعد الشيخ منصور الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) في مواجهة رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش، عبدالفتاح البرهان عام 2021، بسبب الخلاف حول بند الإصلاحات الأمنية والعسكرية وبروز الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، أصيب المسؤولون الأمريكيون بغضب شديد، إذ كانوا قد تلقوا تطمينات بأن المدنيين، وليس العسكريين، هم من سيتولّون الحكم في البلاد، لكن الإمارات أيّدت انقلاب "حميدتي"، وسرعان ما منحته استقبالًا رسميًا حارًا في أبو ظبي.

كانت الإمارات في طريقها لتتفوق حتى على الصين كأكبر جهة تعقد صفقات في إفريقيا، فقد ضخّت شركات يقودها أفراد من عائلة آل نهيان مليارات الدولارات في مناجم أفريقية، ومراكز بيانات، وائتمانات كربونية، في إطار سعي الدولة الخليجية إلى تنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط.

وفي عدد قليل من الدول ذات المواقع الاستراتيجية، لعبت الإمارات أيضًا دورًا خفيًا كمزوّد للأسلحة وصانع ملوك، ففي عام 2021، أنقذ الشيخ محمد بن زايد رئيسَ وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، الذي كان محاصرًا آنذاك، من خلال تزويده بطائرات مسيّرة ساعدت في قلب موازين الحرب الأهلية الوحشية لصالحه.

وحين انهار السودان في أتون حرب أهلية عام 2023، انحازت الإمارات بشكل واضح إلى حليف الشيخ منصور، الجنرال حميدتي.

ورغم أن الإمارات تنكر دعمها لأي طرف في الحرب السودانية، إلا أن الولايات المتحدة اكتشفت منذ الأيام الأولى للصراع أن أبو ظبي كانت تؤوي الجنرال حميدتي وتسلّح مقاتليه، -بحسب مسؤولين أمريكيين- فقد سافر "حميدتي" إلى الإمارات في البداية، حيث مُنح ملاذًا في إقامة محمية، وسجّل منها خطابات مصوّرة لأنصاره في السودان، وفقًا لما قاله مسؤولون أمريكيون.

وبعد ذلك، أطلقت الإمارات مخططًا سريًا لتسليح قوات الدعم السريع (R.S.F.) التابعة له، عبر قاعدة جوية صحراوية في شرق تشاد.

وبحسب المسؤولين الأمريكيين، فإن جاذبية الجنرال حميدتي لدى الإمارات تعود إلى ثلاثة أسباب: أولًا، لأنه قاتل إلى جانب القوات الإماراتية في اليمن؛ ثانيًا، لأن أعماله التجارية كان مقرها في الإمارات، حيث يبيع الذهب ويشتري الأسلحة؛ وثالثًا، لأنه يصف نفسه بأنه عدو صريح للجماعات الإسلامية.

واستنادًا إلى تنصّت هاتفي، خلصت وكالات الاستخبارات الأمريكية إلى أن الجنرال حميدتي كان على اتصال مباشر مع اثنين من قادة الإمارات، هما الشيخ محمد بن زايد والشيخ منصور، بحسب المسؤولين.

 كما تمكنوا من تحديد مسؤول إماراتي ثالث كان ينسّق شبكة من الشركات الوهمية التي ساهمت في تمويل وتسليح قوات الجنرال "حميدتي"، ومع اندلاع الحرب، بدا أن الشيخ منصور قطع علاقاته العلنية مع الجنرال حميدتي، لكن الاتصال الحقيقي لم ينقطع، فقد أرسلت الإمارات أسلحة إلى قوات الجنرال عبر قاعدة جوية في تشاد، حيث كانت تدير، في الظاهر، مستشفى ميدانيًا تموّله منظمتان خيريتان، كلتاهما تخضعان لإشراف مباشر أو غير مباشر من الشيخ منصور.

وواجه المبعوث الأمريكي إلى السودان، توم بيريلو، الشيخ منصور شخصيًا في عام 2024 بشأن دعمه للجنرال حميدتي، خلال اجتماع عُقد في الإمارات، أملًا في كبح التدخلات الخارجية، لكن الشيخ منصور رفض الاتهام، قائلًا إن مسؤولية تحقيق السلام تقع على أعدائه، بحسب ما أفاد به مسؤول أمريكي.

محاولة شراء "ديلي تليغراف"

في أواخر عام 2023، وفي دفعة كبيرة لطموحات الإمارات في مجال الإعلام العالمي، أبرم الشيخ منصور صفقة بقيمة 600 مليون دولار للاستحواذ على صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية، المعروفة بتوجهها المحافظ، لكن الحكومة البريطانية أوقفت الصفقة بعد أقل من ستة أشهر، عبر قانون جديد يُقيّد ملكية الصحف من قبل جهات أجنبية.

وقال أحد النواب علنًا: "من المستحيل فصل الشيخ عن الدولة"، فيما أعربت وزيرة الثقافة، لوسي فرايزر، عن مخاوف تتعلق بحرية التعبير ودقة نقل الأخبار.

وقد واجه الشيخ منصور نكسات أخرى منذ ذلك الحين، فقد بدأ نادي "مانشستر سيتي" في سبتمبر بالدفاع عن نفسه أمام لجنة تحكيم في لندن، بعد إثارة الشكوك بشأن سلسلة انتصاراته اللافتة.

وتتهم رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز النادي بارتكاب 130 انتهاكًا للقواعد، من بينها ضخ مئات الملايين من الدولارات من شركات إماراتية إلى خزائن الفريق، وإخفاء تلك الأموال على أنها صفقات رعاية. ووصفت وسائل الإعلام الرياضية البريطانية هذه القضية بأنها "محاكمة القرن".

ويُعد الدوري الإنجليزي الممتاز أكبر صادرات بريطانيا الثقافية، مما يجعل النزاع مع فريق الشيخ منصور مكلفًا للغاية، وذو تبعات سياسية واقتصادية واسعة، لكن الرهانات تتجاوز المجال الرياضي.

فقد طرح المسؤولون الإماراتيون القضية خلال محادثات مع وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، أثناء زيارته للإمارات العام الماضي، بحسب مصادر مطّلعة على الاجتماع. وقال إيدي ليستر، المبعوث البريطاني السابق إلى الخليج: "لقد أصبحت القضية مصدر توتر مستمر بين البلدين".

قلق "واشنطن" من الدور الإماراتي

وفي واشنطن، أصبح القلق المتزايد بشأن الدور الإماراتي في حرب السودان قضية تحظى بإجماع حزبي في الكونغرس، وقد وجّه ماركو روبيو -الذي أصبح وزير الخارجية الأمريكي- انتقادات للإمارات، واتهمها بدعم "إبادة جماعية" يقودها الجنرال حميدتي، وذلك خلال جلسة الاستماع الخاصة بتثبيته وزيرًا للخارجية في يناير.

وطالب ديمقراطيون بارزون بفرض حظر على مبيعات الأسلحة الأمريكية للإمارات حتى تتوقف عن تسليح قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي، وقد ازدادت تلك الدعوات في مايو، بعدما قصفت قوات الدعم السريع مستودعات وقود، ومحطات كهرباء، وآخر مطار دولي في السودان، مستخدمة طائرات مسيّرة قوية، قال مسؤولان أمريكيان سابقان إنها مقدّمة من الإمارات.

لكن بعض هذه الانتقادات تلاشت بعد أيام قليلة، عندما زار الرئيس ترامب الإمارات، حيث استمتع بحفاوة الاستقبال في قصر الرئاسة الفخم المبني من الرخام في أبو ظبي، ووقّع صفقة للذكاء الاصطناعي بقيمة 200 مليار دولار مع الدولة، أُضيفت إلى تعهدات إماراتية سابقة بالاستثمار بقيمة 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة، وقال ترامب للشيخ محمد بن زايد: "أنت رجل عظيم، ويشرّفني أن أكون معك".

وكان الشيخ منصور جالسًا بجوارهما، وقد أعلنت شركة "مبادلة" التابعة له أنها ستستخدم مشروعًا للعملات الرقمية مملوكًا لعائلة ترامب لتنفيذ صفقة بقيمة ملياري دولار، يُتوقّع أن تُدر مئات الملايين من الدولارات على عائلة الرئيس.

لقراءة التقرير من مصدره باللغة الإنجليزية اضغط هنا