مذابح الصحفيين في غزة.. كاميرات الشهداء توثق جرائم الاحتلال
الاثنين - 8 سبتمبر 2025
(إنسان للإعلام) تقرير- حنان عطية:
وسط ظروف قاسية ومخاطر كبيرة، يعمل الصحفيون في قطاع غزة بلا كلل؛ حاملين رسالة كشف الحقيقة وسبر أغوار الأحداث، ونقل الصورة وتوضيح المشهد، غير آبهين بخطر الموت أو الإصابة في قصف هنا أو تفجير هناك.
ومع ذلك، يواجهون -مثلهم مثل باقي سكان القطاع- أزمات عديدة تعرقل سير عملهم؛ منها انقطاع التيار الكهربائي مع الاعتماد على ما يتوفر من طاقة شمسية يتعمد العدو الصهيوني استهدافها وتدميرها، إلى جانب انقطاع الإنترنت لفترات طويلة، خصوصاً في مناطق شمال القطاع، بما يضع العراقيل أمام جهودهم لنقل جانب كبير من الصور الدامية في غزة وما تشهده من أهوال.
في غزة لا تقف الشارات والسترات التي تحمل كلمة "صحافة" حائلاً دون استهداف أصحابها؛ فعلى مدار فترة الحرب المتواصلة منذ ما يقارب العامين، استشهد في قطاع غزة 250 صحفياً، وفقًا للمعطيات الرسمية الصادرة عن "المكتب الإعلامي" الحكومي في القطاع، وأصيب عدد آخر في غارات مختلفة، ومن بينهم من بُترت أطرافه، أو من يواجه خطر الشلل النصفي أو الكامل، ومن هو بحاجة ماسة للعلاج في مستشفيات بالخارج في ظل انهيار منظومة الخدمات الطبية في الداخل.
واستشهد، فجر اليوم الإثنين، الصحفي أسامة أحمد بعلوشة، عقب قصف الطيران الحربي الصهيوني لمنزل عائلته شمال غربي مدينة غزة، وذلك بعد نحو أسبوعين من استشهاد ستة صحفيين ومصورين في غارة على مستشفى ناصر بخان يونس، جنوب القطاع، وعلى الهواء مباشرة يوم 25 أغسطس 2025، وهم: المصور معاذ أبو طه، والمصور محمد سلامة من قناة الجزيرة، والمصور حسام المصري، والصحفية مريم أبو دقة، والصحفي أحمد أبو عزيز، بالإضافة إلى الصحفي حسن دوحان الذي استشهد برصاص الاحتلال في مواصي خان يونس.
ووقعت الجريمة في تلك اللحظة التي انطفأ فيها البث عندما كان الطاقم الصحفي يوثق مشاهد المعاناة اليومية في محيط أكبر مستشفى في القطاع حين باغت الانفجار المكان، ثم أعقب ذلك صمت ثقيل؛ حيث أظهرت الصور التي تسربت من موقع الخيمة سترات صحفية زرقاء ملطخة بالغبار والدماء، وكاميرات تحولت إلى شواهد صامتة على ما جرى.
وجاءت حادثة استهداف الصحفيين الستة بعد حادثة مشابهة لها في الشهر نفسه؛ حيث استشهد مراسلا الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، والمصورون إبراهيم ظاهر ومؤمن عليوة ومحمد نوفل، مساء الأحد 10 أغسطس، في لحظة صادمة كشفت حجم المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون في ميادين غزة، وعن الثمن الذي تدفعه الحقيقة على أرض محاصرة.
إدانات دولية
وقد أقرت تقارير منظمات دولية متعددة الجرائم التي يتعرض لها الصحفيون في غزة؛ فوفقاً لتقارير لجنة حماية الصحفيين، اعتبرت حرب غزة من أكثر الصراعات دموية بالنسبة للصحفيين في التاريخ المعاصر، حيث استشهد أكثر من 100 صحفي وموظف إعلامي في غضون الأشهر الأولى من العدوان، قبل أن يتضاعف العدد خلال الشهور التالية للعدوان، وهو رقم لم يُسجَّل في مثل هذه الفترة القصيرة في أي نزاع آخر؛ حيث مثّلت خسائر الصحفيين – وفقاً للتقرير – ما يقرب من 1% من إجمالي عدد الشهداء في القطاع، وهي نسبة هائلة تُظهر حجم الخطر المحدق بهذه الفئة.
وكشفت التحقيقات الأولية لمنظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"مراسلون بلا حدود" عن أدلة تشير إلى استهداف مباشر للصحفيين وعائلاتهم؛ بما اعتبرته يمثل انتهاكاً للقانون الدولي الذي يحظر الهجمات المباشرة على المدنيين، بما فيهم الصحفيون، حيث أصبح مشهد استشهاد الصحفي وأبنائه مشهداً مأساوياً ومتكرراً، يُظهر حالة الإصرار على القتل المتعمد لمن ينقل الحقيقة على الأرض.
كما أدانت منظمة اليونسكو، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمات حماية الصحافة استهداف الصحفيين، ودعت إلى احترام القانون الدولي، وطالبت العديد من الجهات بإجراء تحقيقات مستقلة وشاملة حول الهجمات التي استهدفت الصحفيين ومرافق الإعلام لتحديد المسؤوليات ومحاسبة المسؤولين عنها.
واتهمت مستشارة مجلس إدارة المعهد الدولي للصحافة، خديجة باتيل، المجتمع الدولي بالمشاركة في قتل الصحفيين بقطاع غزة؛ بفعل صمته على الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال "الإسرائيلي"، والتي استهدفت الصحفيين في القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023.
وشددت المسؤولة الدولية على أهمية دور الصحفيين في كشف الحقائق والمعلومات، وتوصيل صوت المدنيين في القطاع، وفضح الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال، وأعربت عن استيائها من الصمت الدولي إزاء الجرائم التي نفذتها قوات الاحتلال جنوب قطاع غزة.
فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية، قالت إن الدول الأوروبية لم تقم بما يكفي للضغط على ممارسي الإبادة في غزة، مطالبة بحماية الصحفيين والمستشفيات والأطباء.
ودعت "ألبانيز" إلى فرض عقوبات وحصار على صفقات الأسلحة المهرَّبة للكيان المحتل لفلسطين، وتكثيف الضغط للسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة.
أفعال غائبة
ورغم هذه الإدانات المتلاحقة من جهات دولية ومنظمات عالمية، إلا أن الواقع يؤكد أن العالم يقف مشلولاً عاجزاً، لا يقدم عملاً ملموساً على الأرض لإيقاف مسلسل الدم البغيض الذي يطحن كل من على أرض غزة في طاحونة الموت والاستهداف، وليس الصحفيين وحدهم.
بل إن الشواهد والوقائع تؤكد أن هذه الجرائم المروعة واستهداف الصحفيين تتم بشكل "ممنهج" من الاحتلال الصهيوني، وبرعاية واضحة من الإدارة الأمريكية وكافة الدول التي شاركت في جريمة الإبادة الجماعية؛ بما يؤكد أن هذه الجرائم تتم وفقاً لاستراتيجية تهدف إلى إسكات الصوت وطمس الحقيقة.
إن دماء هؤلاء الصحفيين، التي سالت على عدسات كاميراتهم وهم يؤدون واجبهم الإنساني والمهني، ليست مجرد أرقام تُضاف إلى إحصاءات المأساة، بل هي شواهد حية على جريمة تُرتكب أمام أعين العالم، بعد أن تحولت السترة الصحفية من درع يفترض أن يحمي الصحفي إلى شهادة وفاة مُعلَّقة على جسد صاحبها، وتحولت كلمة "صحافة" من رمز للحماية إلى شعار للاستهداف.
وتبقى ذكرى شهداء العدسة – من مريم أبو دقة التي تركت ابنها الوحيد، إلى محمد سلامة الذي لم يعش ليرى يوم زواجه، إلى كل من سقطوا وهم يحملون الكاميرا بدلاً من السلاح – تذكيراً بأثمن ما نخسره في الحرب، وهو الإنسانية والحقيقة؛ حيث تتحول تلك الدماء التي روَت أرض غزة حبراً يكتب به التاريخ أجمل قصص البطولة وأقسى فصول الجريمة.