محمد احمد الهادي يكتب: الراقدون فوق التراب(1)

السبت - 2 يوليو 2022

محمد احمد الهادي

لا يستطيع باحث منصف أن ينكر ما قدمته العلمانية الغربية لأوروبا "مادياً"، تلك  الفكرة التى بدأت أول ما بدأت على استحياء فى القرن الثالث عشر الميلادى ثم سادت أوروبا و انتصرت على ما سواها من أفكار داخل القارة العجوز فى أوائل عصر النهضة.  فقد استطاعت العلمانية بأفكارها أن تغل يد الكنيسة المهيمنة آنذاك على قرارات القصور و مقدرات الشعوب حتى وصل الأمر للتجارة بآخرتهم بعدما أضاعوا دنياهم.

نعم كانت أوربا منذ أن جاء البابا جريجورى الكبير فى القرن الحادى عشر أرضاً بوراً و مناخاً مسموما لا تنبت عالما و لا ترعى فكرة و لعل محاكمة جاليليو الشهيرة فى بدايات القرن السابع عشر من قبل بولس الخامس و التى حكمت عليه بالسجن مدى الحياة لمجرد كشفه العلمى بأن الأرض كروية و أنها تدور و أن الشمس مركز الكون لعل هذه المحاكمة توضح إلى أى هوة سحيقة بل و سخيفة وصلت أوروبا تحت إمرة بابوات الكنيسة.

و لأن قانون "رد الفعل" الذى لا أراه قانوناً فيزيائيا فقط بل هو فى رأيى قانون إنسانى بامتياز، فقد استفاق العقل الجمعى فى أوروبا و ثار على الكنيسة المهيمنة و اعتنق العلمانية (التى تنادى بفصل الدين عن الدولة) كفكرة و كمنهج . اعتنق العلمانية يستجير بها من ويلات ما رأى، اعتنقها ليقينه فى فشل بل فى جرم الفكر و الادارة البابوية. اعتنقها ملاذا و أملا و نكاية.

لكن سؤالين أراهما واجبا الطرح آملاً فى مناقشتهما بتجرد و هدوء :
هل كانت العلمانية دواء مثالياً حتى و إن كان ناجعاً؟
كيف قدم العلمانيون العرب فكرتهم لشعوبنا المقهورة؟
عل مقالى هذا يتسع للإجابة عن السؤال الأول و مقالات قادمة تجيب عن الآخر.

 يعرف جون لوك  (أحد منظرى العلمانية الأول) العلمانية قائلاً:  " يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل". على قدر تفهمى للترحيب الشديد بهذا التعريف من قبل أوروبا فى ذلك الزمان على قدر اندهاشى من هذه الروح الانفصامية التى تسرى بين حروف الكلمات و التى أحرقت فيما بعد كل القيم الانسانية النبيلة.

لقد أعلن التعريف صراحة لا تلميحاً أن لا دخل للقيم و الأخلاق و السلوك  (و هى معان دينية بالمقام الأول) لادخل لها بالمجتمع و لا السياسة و لا الدولة  فالقيم الحاكمة بين الناس هى تلك التى يقررها الساسة و القيم الحاكمة للساسة هى المصلحة و المنفعة و فى مقابل ذلك فلتفعل الكنيسة ما تريده داخل أديرتها و كنائسها بلا رقيب و لا حسيب. أعتقد أن هذا الفصل النكد بين منظومة القيم الروحية "بناء الروح" وعملية إدارة الدولة  "بناء الجسد" جريمة فى حق البشرية لا تفوقها جرماً إلا تتمة التعريف الذى جعل العقل البشرى "المحدود" هو المرجعية الكبرى لكون "غيرمحدود". لقد استبدل الغرب "ببساطة" بابوات  العصور الوسطى بكهنة السياسة واستبدلوا التوراة  و الإنجيل بكتاب "الأمير" لميكافيللى!!!

لا عجب إذا أن يبدأ انهيار المنظومة الاقتصادية العالمية القائمة على العملة الخضراء التى فرضتها أمريكا على العالم بقوة السلاح لا قوة الاقتصاد. فقد وعدت أمريكا "العلمانية" العالم بأن توفر أونصة ذهب أمام كل 35 دولارا تطبعه و "كذبت" و لم "توف"  بعهدها فأصبحت ثروات العالم مجرد ورق أخضر لا قيمة له و أمريكا "العلمانية" لم تفعل شيئا سوى أنها  "لعبت سياسة" و ليذهب العالم إلى الجحيم.

ليس مستغرباً أيضاً  أن تبدأ البشرية كلها فى حصاد ما تم زرعه فى الوعى الجمعى للغرب فنرى هذه الحرب السفيهة من أجل الاعتراف بحقوق "الشواذ" بدلاً من علاجهم فترى قوس قزح يكاد يخترق توافذ بيوتنا بعدما تلونت به جل العلامات التجارية الكبرى بل و شارات القيادة فى الدوريات الخمس الكبرى... أى مرض بل أى خيبة!!!هذه هى العلمانية التى تسارعت بالغرب تسارعاً مادياً مذهلاً وصلت  معه إلى معدلات غير مسبوقة فى ...الرفاهية و الانتحار معاً!