محمد احمد الهادي يكتب: الراقدون فوق التراب(2)
الأربعاء - 13 يوليو 2022
بقلم/ محمد أحمد الهادى
و لعل ممارسات العلمانيين العرب و منهجهم فى أوطاننا ،المنكوبة ببعض نخبها و بجل قادتها، لعلها أكثر كارثية من الفكر العلمانى نفسه و لا أبالغ إذا ما ادعيت بأنه لا وجه للمقارنة بينهما. ذلك أن المنهجية ببغاوية الآداء و كذا الممارسة و التطبيق مضحكان حد البكاء.
فلا غضاضة عندى أن يطرح كل فصيل أفكاره و مرجعيته بصدق و أمانه فى فضاء الوطن الرحيب فتختلف الأفكار و تتصارع و يختار الشعب ما يوافق فطرته و ما يؤمن به و من يثق فيه و حينها يجب أن يذعن الجميع لخيارات صاحب الحق الأصيل "الشعب" ولكن هل يدرك العلمانيون ذلك بل هل يؤمنوا به؟
إن المتتبع للحركية العلمانية المصرية لابد و أنه اصطدم عشرات المرات بجملتهم المبتذلة الشهيرة التى يلقونها فى وجه خصومهم بمنتهى النشوة و كأنهم لا يريدون من أى حوار إلا التلذذ بنطقها : " أنتو عاوزين ترجعونا للعصور الوسطى المظلمة"!! . أتفهم أن يقول هذه الجملة علمانيو الغرب بكل جرأة و أسى فعصورهم الوسطى كانت شديدة الظلم و الظلمات لحد لا يكاد يتخيله بشر و قد أشرنا بلمحة او لمحتين منه فى المقال السابق. أما أن يقولها علمانيو العرب لأشقائهم يجعلك توقن بتبعية عمياء و فقدان واضح للبوصلة!!، فلا أدرى عن أى عصور وسطى مظلمة يتحدثون؟؟ و لا أعلم أى منهجية علمية ينتهجون!!
إن عصورنا الوسطى نحن المسلمين كانت عصور علم و تقدم و رقى فى شتى مجالات العلوم التطبيقية و الإنسانية. إن مقالاً كهذا و عشرات مثله لا تستطيع أن تحصى "فقط" أسماء العلماء المسلمين الذين ملأوا الآفاق نورا و رقياً و هو ما دفع زيجريت هونكة الكاتبة الألمانية أن تكتب كتابها القيم "شمس العرب تسطع على الغرب" و التى تسرد فيه بعضا من فضل علمائنا على العالم فى العصور الوسطى التى يتحدث عنها علمانيونا بكل أسى و بترديد ببغاوى مزعج. إن ترديد مثل هذه الجملة مع أخواتها من الجمل المعولبة تنم عن جهل بتاريخ الأمة كما تنبئ عن جهل بداءها و سبب بلواها.
إن تراكم الأمة الحضارى يخبر أى متخصص منصف أن هذه الأمة ما قامت إلا حينما اعتمدت دينها "الإسلام" مرجعية حضارية و إطاراً قيمياً و أخلاقياً سادت به العالم لعشرة قرون و هى أكبر حقبة زمنية سادت فيها حضارة ما فى تاريخ البشرية. ذلك لأن طبيعة الإسلام كدين خاتم تختلف اختلافاً كلياً عن المسيحية كدين مرحلى و حينما فصلت الأمة الدين "أو أريد بها ذلك" عن كونه مرجعية و حاكماً تاهت و ماعت و اضمحلت و عادت إلى سيرتها الأولى. إذا فأسباب قوتنا و ضعفنا يختلفان بل يتضادان مع الحالة الغربية فكيف يرتضى العلمانيون أن تتداوى شعوبنا بنفس العلاج لمجرد تشابه الأعراض و الداء مختلف!!!
إن هذه الإشكالية المنهجية التى أصفها "بالببغاوية" هى ما وضعت جل العلمانيين فى حالة من "التوهان" التنظيرى فأصبحوا متخصصين فى نحت تعريفات شاذة أحياناً و "مضحكة" أحايين أخر. تعريفات لا علاقة لها بالعلمانية فكراً و منهجاً لدرجة أننى سمعت بأذنى علمانياً فى ملتقى ثقافى بعد الثورة يعرف العلمانية أنها مشتقة من "العلم" بفتح العين و اللام!! و هى تعنى من وجهة نظره أن العلمانية هى اصطفاف الأمة تحت علم واحد بغض النظر عن الدين أو العرق!! و كذا فعل نصر أبو زيد فى مناقشته لحدود العقل فى المنظومة العلمانية و قال ما لم يقله أحد من منظرى العلمانية و ما تنفيه التجربة العلمانية على مستوى العالم أجمع.
إن محاولة إعادة تعريف المعرف و تأطير المؤطر هى حالة من الإرتباك الفكرى المصاب بها أغلب العلمانيين العرب للهروب من قصور المنهج و عدم مواءمته للبيئة و الثقافة و التجربة الإسلامية. إنها محاولة نبش القبور لاستخراج فكرة ميتة أو كادت أن تموت فما استطاعوا أن يعيدوها للحياة و ما فارقوها فرقدوا مثلما رقدت و لكن "فوق التراب".