مؤمن الهباء يكتب: المرابطون فى الأقصى

الثلاثاء - 19 أبريل 2022

- مؤمن الهباء

إذا كان للشجاعة عنوان فى هذا الزمن فهم هؤلاء الأبطال المرابطون فى ساحات المسجد  الأقصى، رجال ونساء، شباب وأطفال وشيوخ، يتصدون لجحافل المستوطنين وقوات الاحتلال  المدججين بالسلاح الفتاك، هؤلاء المرابطون هم البقية الباقية لكرامة الأمة، يواجهون الموت فى كل لحظة غير متهيبين، سلاحهم حجر وذراع وقلب من حديد، مقنعين بالكوفية حتى لايعرفهم المجرمون فيهدمون بيوتهم ويشردون أهلهم، وبين عيونهم نقرأ : " لاتزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله، لايضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون على الناس ".
المرابطون فى أكناف الأقصى لايأكلون مثلما نأكل، ولا ينامون مثلما ننام، لا تشغلهم مسلسلات هابطة وبرامج تطعن فى الدين، وإنما هم فى صيام وصلاة واستنفار دائم، يعيشون زمن المجد ويكتبون صفحات الفخار، لانرى لهم غير صور فى لقطات سريعة وهم يغلقون أبواب المسجد بأجسادهم، أو يلقون الحجارة على المقتحمين الجبناء ليردوهم عن أولى القبلتين وثالث الحرمين، أو وهم معتقلون قد ربطت أيديهم بالسلاسل، أو وهم شهداء على الأرض، تروى دماؤهم الذكية واحدة من أطهر بقاع الأرض .
العالم مشغول بالحرب فى أوكرانيا، ويبكى على الضحايا الأبرياء هناك، الذين يقتلون أو يصابون، والمدن التى تهدم، لكن لا أحد  يهتم بهؤلاء الأبطال العزل، ولا بجرائم الصهاينة  التى تفوقت على كل الجرائم التى عرفها البشر، ولا عن خطط هدم المسجد الأقصى، ومنع المصلين من الوصول إليه، ولا عن استفزازات المستوطنين الذين يرون أن الوقت صار مناسبا للاقتحام النهائى وذبح القرابين داخل باحات المسجد إيذانا بهدمه وبناء هيكل سليمان مكانه . 
ولا أحد يهتم بالتصعيد الذى تشهده مدينة القدس تزامنا مع أيام شهر رمضان وأعياد الفصح  لليهود والمسيحيين، ولا أحد يتحسب للانفجار المنتظر بسبب الإجراءات التعسفية التى تتخذها قوات الاحتلال ضد المواطنين الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، ومما يؤسف له أن يشارك  العرب والمسلمون فى هذا الصمت المريب، بل إن منهم  من يحمل على الأبطال المرابطين، ويسخر منهم، ويردد اتهام اليهود بأنهم إرهابيون .
كأنما عميت عيون الجميع عن رؤية الحق المبين، فالمسجد الأقصى هو بيت العبادة الوحيد على وجه الأرض الذى يعيش تحت الحصار على مدار الساعة، ويمنع أهل دينه وأهل مدينته من الوصول إليه إلا بتصاريح وشروط خاصة، وتخرب حوائطه وأعمدته وبواباته، ويهشم زجاج نوافذه، والمقدسيون وحدهم ـ دون خلق الله ـ يؤدون صلاتهم تحت حصار قوات الاحتلال وعدوانها . 
وفى زمن الفتن الطائفية والمكايدات الفارغة وتخريب الهوية الوطنية والدينية والقومية، يضرب المرابطون أروع الأمثلة فى الإخاء الوطنى، فيتشارك الفلسطينى المسيحى مع أخيه المسلم فى حماية الأقصى، ويرابط معه داخل الحرم القدسى فى أبهى صورة يكتبها التاريخ للوحدة الوطنية، وتنقل وسائل الإعلام هذا المشهد البديع للفلسطسنى المسيحى المرابط مع المسلمين، يجهز الإفطار وينظف المصلى ويعالج الجرحى ويصلح مكبرات الصوت .
يقول العم رائد نصر الله ابن الناصرة الذى شد الرحال ليعتكف فى الأقصى مع أبناء شعبه : " هذا ليس بعجيب ولا بغريب، فالمسجد الأقصى يخصنى كفلسطينى بغض النظر عن ديانتى، إنه صرح تاريخى شاهد على صمود الفلسطينى فى أرضه، ومن أعظم المبانى التاريخية فى فلسطين، وأحد رموزها التى نعتز بها، نريده شامخا ككنيسة المهد وكنيسة القيامة، نحب مقدساتنا أن تكون محمية، وأن يحق لأصحابها الصلاة فيها وشد الرحال إليها، فقد علمنا المسيح أن ندافع عن العدل والحق ". 
لكن للأسف، لا يهتم أحد بأمر العم رائد، ولا بأمر الأخت كريستين ريناوى التى ارتدت الحجاب لتكون فى الأقصى مثل حرائر الأقصى، وتقول : " أنا واحدة من عشرات المسيحيين الذين يعيشون هنا أجمل أيام حياتهم  مع المسلمين  المرابطين الذين وقفوا من قبل مع قساوسة كنيسة القيامة حين هاجمهم جنود الاحتلال ". 
هؤلاء الأبطال لاسند لهم إلا الله، ولا بواكى عليهم، مع أنهم يحاربون أعظم معركة، دفاعا عن وطنهم ومقدساتهم، ودفاعا عن شرف أمتهم، يضربون بالرصاص الحى، ويعتقل منهم المئات كل يوم، ويعتدى على المعتكفين والمعتكفات بالهراوات إمعانا فى الإهانة، وهم صابرون صامدون، بينما أمتهم مغيبة، قد أثر البهتان فيها وانطلى الزور عليها، بعدما ألقت أذنها للأكاذيب الصهيونية، التى زعمت على لسان بعض المستأجرين أن المسجد الأقصى ليس هو المسجد الأقصى المقصود فى القرآن الكريم، أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول ومعراجه، وأن المعراج لم يحدث من الأساس .
كان التخطيط الصهيونى الأمريكى محكما، قبل هدم الأقصى يجب نزع القدسية عنه فى نفوس المسلمين، والتشكيك فى وجوده من الأساس، حتى يسهل ابتلاعه وصرف الأنظار عنه،  فيصبح مثل مئات المساجد التى تهدم دون ضجيج فى أنحاء العالم، ويقوم بهذه المهمة القذرة وكلاء قادرون على الوصول إلى قمة الفجور، إعلاميون وأزهريون وباحثون ومدعون يلهثون وراء المال والشهرة، هؤلاء هم طليعة التحول الكبير المنتظر، الذين بإمكانهم قلب الحقائق وتغيير اتجاه الريح، حتى يقولوا إن القدس يهودية، وإن أصغر زاوية أعظم قدسية من المسجد الأقصى، وإن صلاح الدين الأيوبى لم يكن بطلا تاريخيا محررا للأراضى المقدسة من دنس الصليبيين، وإنما كان ـ والعياذ بالله ـ قاتلا  مجرما . 
وما أكثر القضايا والمعارك الجانبية التى استطاعوا جرنا  إليها عبر وكلائهم، كى تغرق كل دولة فى مشاكلها وصراعاتها الخاصة، وننسى القدس والأقصى، لكن الله تعالى لاينسى، وهو سبحانه القادرعلى أن يمد أسباب السماء إذا انقطعت أسباب الأرض، " وما يعلم جنود ربك إلا هو . وما هى إلا ذكرى للبشر " صدق الله العظيم .
____
* نقلا عن جريدة " عقيدتي- مصر