لجان تبيع الوهم وتضلل الجمهور|"الترند" أخطر أدوات تزييف الوعي في مصر
الأربعاء - 3 سبتمبر 2025
- "الترند" صناعة أمنية بدأت في مصر مع حملة توريث جمال مبارك وتضخَّم دورها في عهد السيسي
- "الترندات السياسية" تستخدم لتضليل الرأي العام وتوجيهه وفق رؤية النظام منذ انقلاب 2013
- معارك "الترندات" تنتقل إلى الشاشات بأوامر "سيادية" بهدف إلهاء المصريين عن كوارث النظام
- دراسة لشركة "سوشيال باكرز": مصر بين أكبر دول العالم في عدد الحسابات الوهمية المسيّسة
- منصة "تويتر" أعلنت حذف أكثر من مليون حساب مزيف في مصر ودول خليجية نهاية العام 2022
- "فريدوم هاوس": نظام السيسي وظّف مشاهير التواصل الاجتماعي لصناعة "الترندات" السياسية
- الإعلام المعارض لعب دورًا في فضح لعبة "الترندات" المضللة ونجح في تصحيح الوعي المجتمعي
"إنسان للإعلام"- فريق التحرير:
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه المصالح، لم تعد الصحافة التقليدية وحدها صاحبة الكلمة العليا في تشكيل وعي الناس، بل صار "الترند" على مواقع التواصل الاجتماعي هو البوصلة التي تحدد ما يتحدث عنه الجمهور، وما يُسلَّط عليه الضوء، وما يُترك عمدًا في الظل.
في مصر، وتحت هيمنة نظام عبدالفتاح السيسي، ومع بروز ظاهرة اللجان الإلكترونية، تتسع دائرة الشكوك حول تزييف الوهم الجماهيري بـ"تريندات" مصطنعة عبر الشاشات والهواتف المحمولة.
وعليه يأتي السؤال الجوهري: من يصنع "الترند" في مصر؟ وهل هو تعبير عفوي عن تفاعلات الناس، أم أن هناك من يحرّك الخيوط من خلف الستار؟
هذا التقرير يحاول تفكيك هذه الظاهرة: كيف نشأ "الترند" في مصر؟ من يملك القدرة على تحريكه؟ وما الدور الذي تلعبه اللجان الإلكترونية ووسائل الإعلام المحلية في تضخيم قضايا معينة وإغفال أخرى، خدمةً لأجندة النظام السياسي وإعادة تشكيل توجهات المجتمع؟
مفهوم "الترند" وكيفية صناعته
أصبح مصطلح "ترند" جزءًا لا يتجزأ من لغتنا اليومية، ويُستخدم لوصف ظاهرة تحظى بانتشار واسع خلال فترة زمنية محددة، فهو يشير إلى الأفكار والمصطلحات والسلوكيات التي يتبناها عدد كبير من الناس في الوقت نفسه.
كلمة "ترند" مأخوذة من الإنجليزية Trend، التي تعني "اتجاه" أو "نمط"، وأصلها يعود إلى الكلمة الإنجليزية القديمةtrendan التي تعني "يميل" أو "يتحوّل".
ومع تطور اللغة، باتت الكلمة تُستخدم للدلالة على ما يتبعه الناس أو يفضلونه في مجالات متعددة، مثل السياسة والثقافة والموضة والتكنولوجيا.
وقد انتقل هذا المصطلح إلى العربية حديثًا بفعل الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي والتغيرات المتسارعة في أنماط الحياة، وسرعان ما صار شائع الاستخدام، خاصة بين الشباب ومؤثري "السوشيال ميديا"، للتعبير عن الظواهر الحديثة التي تستقطب اهتمام الجمهور.
ومع مرور الوقت، اتسع معنى "الترند" ليشمل التحولات السريعة في الاهتمامات والأذواق، وأصبح يُطلق على كل ما هو رائج في اللحظة الراهنة، وقد ساهمت العولمة وتغيرات المجتمعات المعاصرة في ترسيخ استخدامه وانتشاره، ليغطي طيفًا واسعًا من الظواهر الثقافية والاجتماعية[1].
وبين الحين والآخر يعلو "ترند" ويخبو آخر، ومع هذا التبدل تتكرر الأسئلة: كيف يُصنع الترند؟ ومن يقف وراءه؟
في مصر، لا يُترك الأمر غالبًا لعفوية المستخدمين، بل يُدار بشكل منظم عبر حسابات وهمية تديرها فرق متخصصة ومدفوعة الأجر.
وتشير تقارير إلى أن بعض هذه الحسابات تُدار من داخل مؤسسات الدولة، أو من خلال شركات خاصة على صلة وثيقة بالأجهزة الأمنية.
على سبيل المثال، كشفت تقارير عن أن شركة "نيو ويفز"، المملوكة للواء المتقاعد عمرو حسين، تتولى إدارة حسابات وهمية وتنسيق حملات على منصات مثل فيسبوك وتويتر.
كما تفيد مصادر بأن جهات سيادية، مثل المخابرات الحربية والمخابرات العامة، تشرف على هذه العمليات من مقرات في القاهرة الجديدة.
تعمل هذه الآلية عبر إنشاء صفحات ومجموعات مؤيدة للنظام، تضخ وسومًا محددة، وتعيد تدوير الأخبار عبر وسائل الإعلام، وتشن هجمات إلكترونية ضد الأصوات المعارضة، تصل أحيانًا إلى حملات تشويه أو إغلاق حسابات، وبذلك تحوّلت الترندات إلى أداة مركزية في يد الأجهزة الأمنية لتوجيه الرأي العام وتصدير القضايا التي تخدم أجندتها.
ويرى خبراء أن قوة الترند واستمراره لا تعتمدان فقط على كثافة النشر، بل على "حبكة التصنيع" والتسويق المتقن عبر وسائل الإعلام التقليدية.
وقد أصبح مألوفًا أن تشارك بعض الصحف والقنوات نفسها في صناعة الترند، سواء عبر تضخيم قضايا ثانوية أو اختلاق أحداث تثير جدلاً مصطنعًا.
ويقول البروفيسور جوناه بيرغر، أستاذ استراتيجيات التسويق بجامعة بنسلفانيا، في كتابه Contagious: Why Things Catch On: إن انتقال الأفكار والسلوكيات في المجتمع تحدده عدة عوامل، أبرزها الحديث الشفهي والتوصيات المباشرة التي تغذيها منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما يفسر ديناميكية انتشار الترندات [2].
ومن أبرز أنواع "الترندات":
- الترندات السياسية: تُستخدم كأداة لتوجيه الرأي العام وفق أجندة محددة، حيث يحدد القائمون عليها طبيعة الخطاب السياسي المتداول وما يجب أن يتصدر النقاش العام.
- الترندات المجتمعية: تعكس أنماطًا جديدة من السلوك والعادات والتقاليد، قد تحمل في طياتها قيمًا إيجابية تدعم التماسك الاجتماعي، لكنها قد تمثل في المقابل تهديدًا للهوية الثقافية إذا ارتبطت بسلوكيات دخيلة أو ممارسات مشوهة.
- الترندات الموجّهة للإلهاء: يُلجأ إليها لصرف أنظار الجمهور عن أحداث سياسية حساسة أو أزمات اقتصادية أو قضايا فساد كبرى، ويُعتبر هذا النوع من أكثر الأدوات شيوعًا لدى النظام المصري ولجانه الإلكترونية التي تتقن إدارة موجاته المفتعلة[3].
لجان "السيسي" وصناعة "الترند"
في إطار سعي نظام "السيسي" المتواصل للرقابة والسيطرة على منصات التواصل الاجتماعي، ظهرت بعد انقلاب 2013 ما يُعرف باللجان الإلكترونية، وهي واحدة من أخطر أدوات إدارة الحسابات على تلك المنصات، وتقوم بدور محوري في التضليل، التشويه، الاستهداف الممنهج للمعارضين، كسر الروح المعنوية، وتوجيه الرأي العام بما يخدم السلطة.
هذه اللجان لم تعد مجرد حسابات وهمية أو أسماء مستعارة، بل تحولت إلى شبكات يديرها أشخاص حقيقيون فقدوا ضمائرهم أو جرى استغلالهم.
وفي سبتمبر 2019، كشف المقاول محمد علي أن بعض هذه اللجان الإلكترونية تتبع المخابرات الحربية، وتدار من مبنى في طريق النصر بالقاهرة يخضع للأمن الحربي، كما أشار آخرون إلى أن شركة "New Wave"، تدير جزءًا من هذه اللجان ولها فرع في الإمارات.
وفي ظل هذا النشاط المستمر، أعلنت إدارة "تويتر" في أبريل 2020 حذف نحو 5300 حساب وهمي انطلقت من عدة دول بينها مصر والسعودية والإمارات، كانت مهمتها تمجيد قادة هذه الدول ومهاجمة قطر وتركيا وإيران.
ثم في نهاية عام 2022، كشف مسؤولون في "تويتر" أن المنصة تحذف يوميًا أكثر من مليون حساب مزيف، في مؤشر واضح على اتساع نطاق هذه الجيوش الإلكترونية.
ويُطلق على هذه الظاهرة مصطلح "الذباب الإلكتروني"، في إشارة إلى الحسابات التي تُسخّر سياسيًا لصالح الأنظمة الحاكمة.
أما مصطلح "اللجان الإلكترونية"، فيحمل المعنى نفسه تقريبًا، ويشير إلى تكتلات منظمة من الأفراد والكيانات التي تعمل بشكل ممنهج لتوجيه اتجاهات الرأي العام أو حرفها وفق ما تقتضيه مصالح السلطة[4].
ورغم المبالغ الطائلة التي ينفقها النظام في مصر على تشغيل هذه اللجان الإلكترونية، فإن الواقع يبرهن على محدودية تأثيرها وفشلها في التصدي للفضائح التي تلاحقه داخليًا وخارجيًا، فلم تتمكن من وقف سيل الانتقادات العنيفة، خصوصًا تلك المرتبطة بانتهاكات الحريات وحقوق الإنسان.
والأمر ذاته ينطبق على لجان الإمارات التي تعمل جنبًا إلى جنب مع نظيرتها المصرية، فعلى الرغم من مئات اللجان المنتشرة في البلدين، وإنفاق ملايين الدولارات على شركات ضغط في الولايات المتحدة، وشراء ولاءات بعض الصحفيين والباحثين الغربيين، إلا أن تلك الجهود مجتمعة لم تفلح في تلميع صورة الأنظمة القمعية أو تغيير الانطباع الراسخ عنها في الرأي العام الدولي[5].
وكان أول اعتراف علني من عبد الفتاح السيسي بقدرته على السيطرة على الفضاء الرقمي خلال لقائه مع برلمانيين وإعلاميين أثناء مناقشة قضية "تيران وصنافير" في 13 أبريل 2016، حين قال صراحة: "أنا ممكن بكتيبتين من دول أقفل المواقع دي وتبقى تبعي، وتاخد مني".
ثم عاد السيسي بعد سنوات، خلال الندوة التثقيفية الـ31 للقوات المسلحة في 13 أكتوبر 2019، لينصح الآباء والأمهات بضرورة توعية أبنائهم بأن ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي "80 أو 90 بالمئة منه غير صحيح"، لكنه في الوقت نفسه حذّرهم مما وصفه بـ"الأجهزة واللجان الإلكترونية" في إشارة إلى حملات المعارضة، متجاهلًا الدور الذي تلعبه لجانه الإلكترونية في تضليل الرأي العام.
وتشير دراسات إلى أن الفكرة استُخدمت عمليًا منذ انتخابات 2009 لدعم جمال مبارك، لكنها مع "السيسي" اتخذت شكلاً أكثر تنظيمًا وهيكلية، فقد بات العاملون في هذه اللجان يحصلون على رواتب ومزايا معتبرة، ويُقدَّر عددهم بأكثر من خمسة آلاف شاب يقودهم ضباط عسكريون.
ورغم هذا التنظيم، بدأت تحليلات تقنية في السنوات الأخيرة تكشف خبايا نشاطهم وتوثّق التراجع الواضح في تأثيرهم[6] .
وسبق أن اعترف اللواء محمود الرشيدي، مساعد وزير الداخلية الأسبق لشؤون المعلومات والإنترنت، بأن أجهزة المخابرات حول العالم سارعت إلى استغلال وسائل التواصل في عمليات التجنيد والتأثير.
وفي السياق ذاته، كشف مصدر أمني أن "السيسي" أنشأ بالفعل كتيبتين من اللجان الإلكترونية، وضعهما تحت إشراف مركز الإعلام الوطني للقوات المسلحة، قائلاً إن السيسي "لا يثق إلا بالجيش"، لذلك أُسندت المهمة إلى شباب اختير معظمهم من أبناء قيادات عسكرية سابقة وحالية.
المصدر أوضح أن هذه الكتائب هي التي قادت معظم حملات الهجوم على الشخصيات السياسية والنشطاء عبر مواقع التواصل، حيث تعمل على مدار الساعة في مقرات تابعة للاستخبارات الحربية بمصر الجديدة.
ويضيف أن مئات الشباب يتناوبون على العمل في "شِفتات" متواصلة، ويُمدّون بمواد إعلامية مصوّرة وتسريبات صوتية تستهدف معارضين وسياسيين وإعلاميين، بهدف تشويه صورتهم وكسر حضورهم.
هذه اللجان تتحرك وفق آليتين رئيسيتين: الأولى الانتشار عبر صفحات النشطاء والسياسيين والإعلاميين وحتى الفنانين والرياضيين للوصول إلى أوسع شرائح ممكنة، والثانية إطلاق وإدارة صفحات على مواقع التواصل بعضها سياسي والآخر فني أو رياضي أو ترفيهي، بما يمنحها قاعدة جماهيرية واسعة ويُخفي أهدافها الحقيقية.
كما تعمل على رصد الحسابات النشطة في التفاعلات مع الهاشتاجات المعارضة، وتواجهها بحملات تبليغ منظمة تؤدي إلى حظرها.
ولا تقتصر مهام هذه الكتائب على الفضاء الرقمي فحسب، بل توظف أيضًا بعض الصحفيين والإعلاميين وحسابات البرامج المعروفة، مثل "على مسؤوليتي"، إلى جانب محطات فضائية ممولة من الإمارات وإعلام الشؤون المعنوية، فضلًا عن عناصر شبابية جرى تجنيدها لاحقًا لتتحول إلى "لجان مؤدلجة" تعمل بلا حدود دفاعًا عن السلطة.
من الأمثلة الفجة على عمل هذه اللجان واقعة دهس ضابط جيش لأسرة كاملة في مجمع "مدينتي" شرقي القاهرة مطلع يوليو 2023، فقد سعت الأجهزة الأمنية بداية إلى التعتيم على الحادث، وضغطت إدارة المجمع على السكان لحذف أي منشورات عنه، قبل أن تنتشر مقاطع فيديو من كاميرات المراقبة تكشف الجريمة.
وتحت وطأة غضب مواقع التواصل، اضطر الجيش إلى الاعتراف وإصدار بيانات متتالية عن محاكمة الضابط، فيما انطلقت اللجان في حملة موحدة للتأكيد على أن "لا أحد فوق القانون"، متجاهلة سجل المؤسسة العسكرية والشرطة في مذابح 2013 التي لم يُحاسَب فيها أي ضابط.
وتبرز أمثلة أخرى تكشف محدودية فاعلية هذه اللجان، منها فشل هاشتاج "#المصريين_يرفضون_بيان_ال31دوله" الذي أطلقته في مارس 2021 ردًا على انتقادات أممية، إذ لم يستمر على تويتر أكثر من 15 دقيقة، وبحسب أداة "Keyhole" لم يتجاوز عدد مستخدميه 126 شخصًا.
وكذلك هاشتاج "#السيسي_ركع_أردوغان" الذي تزامن مع أنباء المصالحة التركية المصرية، ولم يشارك فيه سوى 119 مستخدمًا، أغلبهم من مصر مع مشاركة محدودة من الإمارات والسعودية، ثم اختفى سريعًا[7].
هذه الوقائع تعكس بوضوح آليات عمل اللجان الإلكترونية، وتكشف في الوقت نفسه هشاشة حضورها وفشلها المتكرر في مواجهة ديناميكية الرأي العام الحقيقي على مواقع التواصل.
ومن خلال ما سبق، يتضح أن صناعة "الترند" السياسي لم تعد ظاهرة عفوية، بل مهنة احترافية يمارسها مأجورون يعملون لصالح الأنظمة الاستبدادية، هدفها الأساسي تلميع صورة الحكومات الديكتاتورية وتجميل صورتها الذهنية، عبر واحدة من أخطر أدوات "البروباغندا" القادرة على توجيه الرأي العام وإعادة تشكيله بما يخدم السلطة.
وتُعد الحسابات الوهمية أحد أخطر أمراض منصات التواصل الاجتماعي، لما لها من قدرة على التكيّف واكتشاف الثغرات التي تتيح لها البقاء والتوسع، بحيث تمارس الكذب والتضليل بشكل يبدو قريبًا من الحقيقة، فهذه الحسابات تنفذ عشرات العمليات في دقائق، من نسخ الروابط ولصقها إلى تضخيم الوسوم وتكرار الرسائل، ما يمنحها مظهرًا زائفًا من الانتشار والموثوقية.
وقد عادت قضية الحسابات الوهمية إلى الواجهة العالمية مع أزمة صفقة استحواذ الملياردير الأميركي إيلون ماسك على منصة تويتر (X لاحقا)، حين كشفت التحقيقات أن ربع المستخدمين تقريبًا حسابات مزيفة أو روبوتات، وأن أكثر من 23% من متابعي ماسك نفسه حسابات غير حقيقية أو غير مرغوب فيها، بينما أظهرت التحليلات أن 41% من هذه الحسابات تكرر أنماط البريد العشوائي، وأن 69% منها ظل غير نشط لأكثر من 120 يومًا.
هذا الواقع يكشف أن الظاهرة باتت عالمية الأبعاد، لكنها تتخذ في مصر طابعًا أكثر خطورة مع الدعم المنظم الذي توفره جيوش "الذباب الإلكتروني" التابعة للانقلاب والدول الداعمة له وفي مقدمتها الإمارات والسعودية[8].
توظيف مؤثرين لخدمة "الترند"
في إطار صناعة "الترند"، بدأت الأجهزة الأمنية والمخابراتية منذ عام 2014 بتجنيد مئات من صناع المحتوى للترويج، عبر حساباتهم الشخصية، للوسوم والموضوعات التي تستهدفها الدولة.
وفي عام 2021، أطلقت وزارة الإعلام برنامجًا خاصًا لتوظيف المؤثرين على إنستغرام ويوتيوب كـ"سفراء إعلاميين"؛ بهدف تعزيز صورة النظام وترويج الرواية الرسمية بين الشباب.
وقد أكد بعض المشاركين أنهم تلقوا عروضًا مالية ووعودًا بزيادة أعداد متابعيهم والترويج لمحتواهم مقابل المشاركة.، وبرزت أسماء عدة من هؤلاء المؤثرين، مثل: لؤي الخطيب، شريف الصيرفي، محمد نور، وأحمد مبارك، الذين دأبوا على نشر محتوى متكرر يبرر سياسات النظام ويهاجم الأصوات المعارضة، بما في ذلك قضايا حساسة مثل انتهاكات حقوق الإنسان وفضائح الفساد.
وأوضحت دراسة نشرها موقع "درج"، عام 2023، أن شخصيات مثل شريف الصيرفي وأحمد مبارك ومحمد قنديل تستخدم منصاتها على يوتيوب لبث نظريات تدافع عن "السيسي" وتقدمه كزعيم يتحدى "مؤامرات اقتصادية خارجية" كضغط صندوق النقد الدولي، رغم استمرار النظام في التفاوض معه.
أما تقرير "فريدوم هاوس" لعام 2024 فأكد أن السلطات المصرية أنشأت شبكات "شبه عضوية" تستخدم مؤثرين شبابًا موالين للجيش أو المخابرات لتضخيم خطاب الدولة، خصوصًا عبر إنستغرام ويوتيوب.
وأشار التقرير إلى وجود مجموعات واتساب تديرها المخابرات العامة ووزارة الداخلية لتنسيق العمل مع رؤساء التحرير، مع وضع "خطوط حمراء" تحدد ما يجوز أو لا يجوز التطرق إليه في أي ترند.
هؤلاء المؤثرون، وإن اختلفت منصاتهم عن "ديناصورات التلفزيون" كأحمد موسى ونشأت الديهي، إلا أنهم يملكون قدرة أكبر على اختراق عقول الشباب والتأثير في اهتماماتهم، بل وصرفهم عن الواقع المرير.
ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث مع صفحة "ما تصدقش" التي كشفت أسماء المتهمين المصريين في طائرة زامبيا المتورطين في تهريب الذهب، فقد هوجمت الصفحة بضراوة بعد اعتقال الصحافي كريم أسعد، أحد العاملين بها، في حين شارك المؤثرون الموالون – الذين وصفهم البعض بـ"الببغاوات" – في إعادة إنتاج رواية السلطة نفسها وتكذيب الحقائق.
شريف الصيرفي يمثل الحالة الأوضح لهذا التحول، فهو أحد أبرز رموز حركة 6 أبريل التي قادت احتجاجات ثورة يناير، ثم ظهر كأحد مؤسسي "البلاك بلوك" العنيفة، واعترف بنفسه بتأسيس هذه المجموعة بعد أحداث الاتحادية ضد جماعة الإخوان المسلمين، وارتبط اسمه حينها بحرق مقراتهم والدخول في مواجهات متكررة مع قوات الشرطة، لكن الصيرفي سرعان ما انتقل من "الأناركية الثورية" إلى حضن السلطة، تحت رعاية الأجهزة السيادية، ليصبح واحدًا من أبرز وجوه "بروباغندا" السيسي.
اليوم، تحولت قناته على يوتيوب، التي يتابعها أكثر من مليون شخص، وصفحته على فيسبوك ذات الملايين، إلى منصة دعائية للنظام، يعيد عبرها إنتاج الترندات المصنوعة على أيدي اللجان الإلكترونية، وينهي حلقاته دائمًا بأغنية حماسية مقتبسة من مسلسل "الاختيار" الذي يحتفي بالمؤسسة العسكرية والسيسي.
والمفارقة أن هذا التحول الكامل من ناشط ثوري إلى "بوق دعائي" للنظام، يجسد بوضوح الكيفية التي جرى بها استغلال صناع المحتوى وإعادة توظيفهم ضمن ماكينة التضليل الإعلامي[9].
تدوير "الترند" عبر وسائل الإعلام
من أبرز المهام التي يؤديها الإعلام غير المهني في مصر ما يمكن تسميته بـ"تدوير الترند"، أي استغلال ما يُصنع على منصات التواصل وتحويله إلى مادة إعلامية جاهزة للنقاش العام، والهدف هنا ليس فتح حوار حقيقي مع الجمهور، بل دعم رؤية النظام وصرف الانتباه عن قضايا حساسة قد تمس السلطة بشكل مباشر.
غالبًا ما تلتقط وسائل الإعلام التابعة للدولة هذه "الترندات المدارة"، أو تأخذها بأوامر مباشرة، وتعيد إنتاجها في برامج "التوك شو" في ساعات الذروة، لتتحول إلى سلعة إعلامية جاهزة تُشغل الجمهور وتصرفه عن ملفات أكثر خطورة، مثل قضايا الفساد، الغلاء، الأزمات الاقتصادية، أو موجات الاحتجاج.
ويظهر ذلك جليًا في تضخيم قضايا تافهة لا تستحق المساحة التي تُمنح لها، كما حدث في الجدل المثار حول "زواج وطلاق" الفنانة شيرين عبد الوهاب من حسام حبيب، حين خُصصت لها ساعات طويلة من التحليل والتفصيل الممل، في الوقت الذي تجاهلت فيه البرامج أزمات حقيقية تمس حياة المصريين.
هذا النموذج يوضح كيف تُدار التغطية الإعلامية بأوامر مباشرة من شركة "المتحدة" المملوكة للأجهزة السيادية، التي تحدد بدقة ما يجب تضخيمه وما ينبغي التعتيم عليه.
وتؤكد دراسة لشركة "سوشيال باكرز" حول تطور استخدام مواقع التواصل الاجتماعي أن مصر من بين الدول الأكثر امتلاكًا للحسابات الوهمية، سواء كانت غير مفعلة أو مكررة أو مخصصة لأغراض القرصنة.
وتُستخدم هذه الحسابات، جنبًا إلى جنب مع الإعلام الرسمي، لتدوير "الترندات" وتعزيز حضورها الوهمي عبر المنصات والشاشات. [10]
بهذا الشكل، يصبح الإعلام أداة مركزية في استراتيجية الدولة لتضليل الرأي العام، ليس فقط بإخفاء الحقائق، بل أيضًا باختراع وقائع وقصص بديلة تُغرق الجمهور في تفاصيل ثانوية وتُبعده عن جوهر الأزمات التي يعيشها.
تأثير الترند على وعي المواطن
لا يخفى أن الترندات تنتشر بسرعة هائلة، خصوصًا في المجتمعات البسيطة التي غالبًا ما تتعامل معها دون تدقيق أو تحليل، فيتحول المحتوى المتداول إلى مواقف شخصية يتبناها الأفراد دون تحقق، ثم يُعاد نشرها على نطاق واسع، فتأخذ شكل "الترند" وتُغلف بغطاء زائف من الشرعية الشعبية.
وبحسب تقرير مؤسسة "We Are Social" لعام 2022، بلغت نسبة مستخدمي الإنترنت في مصر نحو 71.9% من السكان، بزيادة قدرها 1.4 مليون مستخدم عن العام السابق، وغالبية هؤلاء من الفئة العمرية بين 18 و34 عامًا، فيما يستخدم 48.9% منهم منصات التواصل الاجتماعي بانتظام.
وقد وصل عدد مستخدمي فيسبوك إلى 44.7 مليونًا، ويوتيوب إلى 46.3 مليونًا، وإنستغرام إلى 16 مليونًا، وتيك توك إلى أكثر من 20 مليونًا، وسناب شات إلى 13.6 مليونًا، وهذه الأرقام تكشف حجم القاعدة التي تستقبل الترند وتساهم في تضخيمه.
لكن المشكلة تكمن في أن الأغلبية، خصوصًا من الفئات البسيطة، لم تعد قادرة على تكوين آراء مستقلة، واكتفت بربط المعلومات الممزوجة بآراء الآخرين وتبنيها باعتبارها قناعات شخصية، وهكذا يتولد ما يمكن وصفه بـ"الوعي المزيف"، الذي يتحول تدريجيًا إلى وعي جمعي يشكل الرأي العام.
ويزداد خطر هذه الترندات كلما تداخلت مع الموروثات الاجتماعية أو الثوابت الدينية، حيث يسهل استغلالها لإثارة الجدل وكسب الشهرة، فنجد وسومًا تدعو إلى "تحرير العلاقات بين الجنسين" تحت شعارات الحرية الشخصية، أو أصواتًا لشخصيات محسوبة على المؤسسة الدينية – مثل سعد الهلالي وخالد الجندي – تطرح آراءً تصادم الثوابت، فتخلق صورة ذهنية مشوشة لدى النشء، خاصة مع تراجع دور الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية، في ظل محاربة السلطة لمظاهر التدين المعتدل.
ومن أبرز سلبيات صناعة الترند أيضًا تراجع المصداقية المهنية، فقد بات كثير من الأطباء والإعلاميين يخرجون عن اختصاصاتهم لتقديم محتوى مثير للجدل، فقط بهدف الصعود إلى الترند، وهو ما يؤدي إلى تآكل الثقة في التخصصات المهنية وحتى في المحتوى الرقمي.
كذلك يتم تحويل الجرائم والشائعات إلى قضايا عامة، كما أشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إلى تصاعد جرائم الابتزاز العاطفي والعنف المصور المنتشر عبر الإنترنت، بما يعيد تشكيل معايير السلوك المقبول وغير المقبول.
أما سياسيًا، فقد تحولت الترندات إلى أداة لتأجيج الرأي العام ضد التيارات المعارضة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وقوى المعارضة للنظام الحالي.
وفي الوقت نفسه، فتحت الباب أمام استيراد ثقافات وسلوكيات دخيلة على الهوية المصرية، خاصة بين الشباب المتأثرين بمدوني ومشاهير السوشيال ميديا، إلى جانب ما تروجه أبواق إعلام النظام[11].
في النهاية، علينا أن نؤكد أن الإعلام المعارض والمستقل بات يلعب دورًا محوريًا في فضح لعبة صناعة "الترند" المضلل للرأي العام، وأنه نجح في إعادة تصحيح مسار الوعي الجمعي، خاصة أن الواقع المعيشي للمصريين يمنح هذا الإعلام صدقية ويعزز تأثيره.
وفي المحصلة، تبدو صناعة الترند في مصر سلاحًا في يد السلطة، يُستخدم لتوجيه الرأي العام، وتهميش النقاش الحقيقي، وخلق واقع بديل يتماشى مع سرديات النظام. لكن في المقابل، يظل الوعي الرقمي لدى فئات واسعة قادرًا على التمييز والمقاومة وكشف التزييف، فالمعركة لم تعد تدور فقط على الأرض، بل انتقلت إلى الشاشات، في كل "هاشتاج" وكل "بوست"، وكل محاولة لفرض وعي زائف على المجتمع.
المصادر:
[1] "تعريف الترند وآليات ظهوره على المنصات المختلفة" ، موقع جزيل ، 2 يوليو 2019 ، https://jazeeljo.com/trendword
[2] "تساؤلات حول صناعة «الترند» وتأثيره واستمراره" ، الشرق الأوسط ، مارس 2021 ، https://linksshortcut.com/rjgmb
[3] "لترند بدايته وفكرته ونشأته وارباحه وتأثيره السلبي والايجابي"، موقع الحمدات ،19 اغسطس 2023، https://linksshortcut.com/lSJBb
[4] "لجان يقودها “المايسترو” .. الإلكترونية من “مصنع بلاستيك” تقود حملات تشويه مدفوعة الأجر" ، بوابة الحرية والعدالة، 22 سبتمبر 2022 ، https://linksshortcut.com/gNbYv
[5] "لجان السيسي الأجنبية".. هل تفلح بتغيير الصورة القمعية لنظامه لدى الغرب؟" ، موقع الاستقلال، ٣يناير 2021، https://linksshortcut.com/CQPsN
[6] "لا تصمد على تويتر.. لماذا تراجعت "هاشتاجات" لجان السيسي الإلكترونية؟" ، موقع الاستقلال ، 23 اغسطس 2021 ، https://linksshortcut.com/Dpllh
[7] "كتائب السيسي على “السوشيال”.. آلاف المجندين بطريقة “كوبي- بيست”"" ، بوابة الحرية والعدالة ، 4 نوفمبر2017 ، https://linksshortcut.com/AKsKI
[8] أسامة الحمصي ، " كيف تسوّق هذه اللجان لخطاب السلطة وتشوّه خصومها؟" ، نون بوست ، 28 يونيو 2018 ، https://www.noonpost.com/23904/
[9] “"ببغاوات السلطة” في مصر… مؤثّرون و يوتيوبرز في سبيل السيسي" ، موقع درج ، 21 سبتمبر 2023 ، https://linksshortcut.com/lcryn
[10] "أنظمة عربية قمعية.. كيف طورت أدواتها لتوجيه "الترند"؟" ، الاستقلال ، 23 يوليو 2018 ، https://linksshortcut.com/WdZpX
[11] د.هالة فودة، " تزييف الوعي: التأثيرات النفسية والاجتماعية لظاهرة “التريند”" ، المركز المصري للفكر والدراسات، 19أكتوبر 2022 ، https://linksshortcut.com/VkLNR