أبواق بلا جمهور.. هروب جماعي للأجيال الجديدة من إعلام "السامسونج"

الاثنين - 4 آغسطس 2025

  • منصات التواصل تتجاوز الشاشات الموالية للسلطة في مصر.. والأجيال الجديدة لا تسمع للإعلام الرسمي ولا تصدقه
  • وسائل الإعلام في عهد السيسي ركزت على حشد المواطنين وتعبئتهم لتأييد "النظام" وتجاهلت الغضب الشعبي
  • الوزير الأسبق أسامة هيكل أعترف بعزوف الشباب الأقل من 35 عاما عن الإعلام وهم يمثلون 65 % من المجتمع
  • الانفصال عن الواقع وغياب التنوع وفقدان المصداقية أسباب دفعت شباب مصر للعزوف عن الإعلام الرسمي

 

إنسان للإعلام- تقرير:

عقب انقلاب العسكر على السلطة المنتخبة في مصر، 3 يوليو 2013، وما تبعه من قبضة أمنية مشددة على المجال الإعلامي، دخلت الصحافة المصرية نفقًا مظلمًا، اتّسع مع صعود إعلام الصوت الواحد وتراجع المهنية لصالح الدعاية السلطوية. وبالتزامن مع الطفرات التكنولوجية والانفتاح غير المسبوق على المنصات الرقمية، بات الإعلام الرسمي ـ ومن يدور في فلكه ـ يواجه تحديًا وجوديًا: فقدان جمهوره، لا سيما من الشباب، إذ لم يعد الشاب يبحث عن الحقيقة في نشرات الأخبار المعلّبة، ولا في صحف باتت أشبه بمنشورات داخلية تصدر عن مؤسسات أمنية، بل اتّجه نحو المنصات المستقلة، ووسائل التواصل، وربما إلى الفراغ الكامل من أي مصدر، في ظل تآكل الثقة وانهيار المصداقية.

هذا العزوف المتصاعد لا يهدد فقط مستقبل الإعلام التقليدي، بل يطرح أسئلة عميقة حول وعي الجيل الجديد، وكيف يُعاد تشكيل الرأي العام في مصر، ومن المسؤول عن هذه القطيعة بين الدولة وشبابها؟

في هذا التقرير، نفتح ملف الإعلام المصري الرسمي، ونرصد أزمته المتفاقمة، وأسباب النفور الشعبي منه، خصوصًا في أوساط الشباب، كما نستعرض انعكاسات هذا التراجع على واقع المهنة، قبل أن نطرح رؤية لإنقاذ ما تبقى من الإعلام من مصير التكلس والانقراض.

واقع إعلامي بائس بعد الانقلاب

شهدت الصحافة والإعلام في مصر مرحلة غير مسبوقة من الانفتاح والتعددية عقب ثورة 25 يناير، لا سيما خلال فترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.

 تميزت تلك المرحلة بحرية طرح الرؤى المتنوعة حول القضايا الوطنية، وبرز خلالها شغف الشباب بمتابعة وسائل الإعلام، بل والمشاركة الفاعلة في البرامج الحوارية التي أولت اهتمامًا خاصًا بآرائهم، وساهمت في رسم تصورات لمستقبل البلاد.

وقد اعتُبرت تلك المرحلة، بشهادة المراقبين، "العصر الذهبي" للإعلام المصري، لما اتسمت به من حيوية ومهنية وجرأة في الطرح.

لكن عقب انقلاب 3 يوليو 2013، تبدلت الأوضاع لتدخل الساحة الإعلامية نكسة حقيقية، تجلت في هيمنة خطاب سلطوي أحادي، وانحسار الأصوات المستقلة، وعودة ما يُعرف بـ"إعلام الصوت الواحد" الذي يعكس رؤية السلطة فقط، دون أدنى اعتبار لمطالب الجماهير أو تطلعاتهم، وهو مشهد أعاد إلى الأذهان أجواء الإعلام الموجه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بل وفاقه في حجم التوجيه والدعاية مقارنة حتى بعهد مبارك.

تحولت وسائل الإعلام إلى أداة تعبئة وتحريض، تروّج للسردية الرسمية، وتحشد التأييد للجيش، وتشيطن المعارضين، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، وقد تجلت تلك الدعاية بشكل فج في مناسبات كبرى مثل الاستفتاء على دستور 2014، والانتخابات الرئاسية اللاحقة، حيث انعدمت التعددية، وتكررت مشاهد الصحف التي تصدر بعناوين متطابقة في صفحاتها الأولى، في سابقة تعكس عمق الانحدار.

وبينما كانت الفروق تتلاشى سابقًا بين الإعلام الرسمي والخاص خلال ثورة يناير، فإن ما بعد الانقلاب شهد اندماجًا شبه كامل بينهما في كيان دعائي واحد، اتسم بفقدان المهنية، وانعدام الاستقلالية.

دفعت وسائل الإعلام ثمن تورطها في التمهيد للانقلاب على المسار الديمقراطي، وتحولت من منصات حوار إلى أدوات ترويج للسلطة، وهو ما دفع النظام إلى إحكام سيطرته الكاملة على المشهد الإعلامي.

بدأ ذلك عبر رجال أعمال موالين اشتروا المؤسسات الإعلامية، ثم انتقلت ملكيتها إلى شركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" التابعة لجهاز المخابرات العامة، والتي نجحت في إخضاع تلك الوسائل لسلطة "التعليمات السيادية"، مما أفقدها دورها المهني، وأفرغها من مضمونها، لتتحول إلى "صحافة بيانات رسمية" لا تنقل سوى رواية النظام، حتى وإن كانت مناقضة للواقع الذي يعيشه المصريون، وفي مقدمتهم الشباب.

كما عززت الهيئات التنظيمية التابعة للنظام، وأولها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، من هذا الانحدار من خلال قوانين مقيدة للحريات، في حين تولت الهيئة العامة للاستعلامات مهمة فرض الرواية الرسمية على وسائل الإعلام الأجنبية.

ومع اكتمال تأميم الإعلام الخاص، غرق الإعلام المصري في نكسة غير مسبوقة، انعكست في عزوف قطاعات واسعة من المواطنين، خاصة الشباب، عن متابعته، بعد أن فقد مصداقيته، وتحول إلى أداة تضليل وخيانة للمهنة.

وفي ظل هذا التراجع الحاد، تهاوى ترتيب مصر إلى المرتبة 170  من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة العالمي، في دلالة خطيرة على مدى انهيار البيئة الإعلامية تحت قبضة السلطة[1].

عزوف شبابي عن الاعلام

على مدار العقد الأخير، أصبح عزوف الشباب المصري عن متابعة الإعلام والصحافة المحلية أمرًا جليًا لا يمكن إنكاره، بل أقرّ به مسؤولون داخل النظام نفسه.

 ولعلّ أبرز تلك الاعترافات ما جاء على لسان أسامة هيكل، وزير الدولة للإعلام الأسبق في حكومة السيسي، حين صرّح عبر الصفحة الرسمية للوزارة على موقع "فيسبوك" قائلاً: "الأعمار الأقل من 35 عامًا، ويمثلون نحو 60 إلى 65% من المجتمع، لا يقرؤون الصحف، ولا يشاهدون التليفزيون، وبالتالي من المهم التفكير في نمط حياة هذه الفئات."

ورغم أن التصريح عكس واقعًا معروفًا للجميع، إلا أنه فجّر عاصفة من الهجوم ضد هيكل، حيث سارعت الصحف والفضائيات الموالية للسلطة إلى اتهامه بـ"العمل لصالح إعلام الإخوان"، في محاولة لتشويه تصريحه وتغييبه عن النقاش العام.

كما دعت نقابة الإعلاميين المصريين حينها إلى عقد اجتماع عاجل للرد على ما وصفته بـ"إساءة" هيكل للإعلام الوطني، واعتُبر تصريحه خروجًا عن الخطاب الرسمي، فكانت النتيجة الحتمية إقالته من منصبه، بعد أن وجّه ضربة قاسية للرواية التي تزعم أن الإعلام المصري ما زال يحظى بثقة الشارع، لا سيما الشباب[2].

وفي سياق البحث عن أسباب عزوف الشباب المصري عن الإعلام الرسمي، كشفت دراسة أجراها مركز دراسات الجزيرة، في مايو 2018، أن الجمهور المصري، لا سيما الشباب، لم يعد يجد مصداقية في الإعلام المحلي، واعتبره تابعًا كاملًا للنظام الذي تولى السلطة بعد 3 يوليو 2013.

وأظهرت نتائج الدراسة أن نسبة كبيرة من العينة تميل إلى متابعة الأخبار السياسية عبر وسائل إعلام غير مصرية وعيون مستقلة أو معارضة. كما أفادت أن 41.6%  من المشاركين يعتمدون بشكل رئيسي على هذه المصادر الخارجية لبناء معرفتهم بالمواقف السياسية في مصر، بينما أكد 60.8%  أنهم لا يصدقون ما تروج له وسائل الإعلام المحلية عن المشهد السياسي والحزبي.

علاوة على ذلك، أوضحت الدراسة أن 62%  من المبحوثين – وغالبيتهم من الشباب – لا يثقون في الخطاب الإعلامي المصري منذ ما بعد 3 يوليو 2013 وحتى اليوم، مما يعكس فجوة عميقة بين الإعلام الرسمي ووعي الأجيال الجديدة[3] .

ويأتي ذلك في الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات الدولية المتخصصة في الشأن الإعلامي أن من الطبيعي أن تضطلع وسائل الإعلام المهنية بدور محوري في تشكيل الوعي المجتمعي، وتوجيه الرأي العام، لا سيما في أوساط الشباب.

وتشير هذه الدراسات إلى أن أكثر من 70% من المجتمعات البشرية تعتمد على وسائل الإعلام كمصدر رئيسي للأخبار والمعلومات.

كما تشير الدراسات إلى أن 83%  من الشباب حول العالم يتأثرون بدرجة كبيرة بالمضامين التي تقدمها وسائل الإعلام المهنية، في حين يُستخدم الإعلام في توجيه الآراء بنسبة تصل إلى 60% عند تناول القضايا المثيرة للجدل.

وتُعد الصحافة ـ في هذا السياق ـ رافدًا أساسيًا في التأثير على تشكيل الاتجاهات العامة، وهو ما يتناقض بشدة مع ما يعيشه المشهد الإعلامي في مصر من تراجع في الثقة والمصداقية، وانفصال عن تطلعات الشباب[4].

وفي السياق ذاته، أكدت دراسة بحثية صادرة عن "مؤسسة حرية الفكر والتعبير"، نُشرت في ديسمبر 2020، تحت عنوان: "وزارة الدولة للإعلام.. بين الإفصاح عن المعلومات وصراع الهيمنة على الإعلام"، أن وسائل الإعلام المصرية باتت طاردة للشباب، وأسهمت بشكل مباشر في عزوفهم عنها، نتيجة تقديمها محتوى لا يعكس واقعهم الحقيقي، ولا يعبّر عن تطلعاتهم.

وأشارت الدراسة إلى أن الإعلام المحلي انحاز للسردية الحكومية على حساب معايير المهنة، من احترافية واستقلال وموضوعية، وهي المبادئ التي يُفترض أن يرتكز عليها إعلام الخدمة العامة في أي نظام ديمقراطي.

وخلصت الدراسة إلى أن استعادة ثقة الشباب في الإعلام المصري لن تكون ممكنة دون التزام حقيقي بالمهنية وتطهير المؤسسات الصحفية والإعلامية، خصوصًا تلك المملوكة للدولة، من الخطاب الدعائي وأدوات السيطرة السياسية، وهي دعوات تبنّاها عدد من الأصوات الصحفية المستقلة التي لا تزال تنادي بإصلاح جذري للمشهد الإعلامي[5]. مفارقة بين الواقع والمأمول

من خلال رصد المعالجات الصحفية والإعلامية لقضايا الشباب في مصر، يتضح بجلاء وجود فجوة واسعة بين الواقع الفعلي لتطلعات الشباب المصري، وما تروّجه وسائل الإعلام الرسمية والخاصة عنهم.

ففي حين يعاني ملايين الشباب من التهميش، والبطالة، وغياب التمثيل الحقيقي، تصر المنصات الإعلامية على تقديم صورة دعائية مغايرة، تصف الشباب بأنهم "على قلب رجل واحد" خلف القيادة السياسية، وأن "الجمهورية الجديدة" تضع قضاياهم في صدارة أولوياتها.

وتكرّرت هذه المعالجات النمطية في عناوين صحفية متعددة، منها ما نشرته صحيفة "الأهرام" بعنوان: "وزير الشباب والرياضة: تمكين الشباب المصري في الجمهورية الجديدة اهتمام رئاسي"[6]، و"وزير الخارجية: الوزارة تولي أهمية كبيرة للتفاعل المباشر مع الشباب المصري باعتبارهم طاقة الوطن ومستقبله"[7]، في تأكيد متكرر على خطاب السلطة بشأن تمكين الشباب دون ربطه بمؤشرات واقعية أو أرقام واضحة.

أما صحيفة "اليوم السابع"، فبرزت بتغطيات احتفالية منها: "10 مكاسب لمنتدى الشباب فى نسخته الثالثة.. وكيل البرلمان: منصة حوارية لتبادل الأفكار ورسالة من أرض السلام.. اللجنة التشريعية: جسر للتواصل وطرح الرؤى لمواجهة التحديات"[8]، و"أمانات شباب 42 حزبًا يعلنون دعم الرئيس السيسي في الانتخابات الرئاسية"[9]، إلى جانب تقارير من نوع: "الشباب يسطرون معركة تاريخية فى الانتخابات الرئاسية.. نواب يشيدون بالملحمة الشبابية أمام اللجان على مدار 3 أيام"[10].

كما نشرت صحيفة "الدستور" عنوانًا يؤكد هذه السردية: "القيادة السياسية تؤمن بدور الشباب وتثق في قدراتهم"[11]، فيما ركّزت "الوطن" على موضوعات مشابهة مثل: "الوطنية للانتخابات تفتح حوارًا مباشرًا مع الشباب عن أهمية دورهم في الاستحقاقات الدستورية"[12]، و"شباب مصر: ندعم موقف القيادة السياسية ضد مخططات تهجير الفلسطينيين".[13]

وفي السياق ذاته، لم تكن البرامج الفضائية بعيدة عن الخطاب الإعلامي الدعائي الذي يسوّق لرؤية السلطة بشأن الشباب المصري، حيث تبنّى عدد من الإعلاميين المقرّبين من النظام رواية واحدة تكرّس صورة وردية بعيدة عن الواقع المعيش.

ففي حلقة من برنامج "الحكاية"، الذي يُعرض على فضائية "MBC مصر" بتاريخ 16 نوفمبر 2024، قال المذيع "عمرو أديب" إن "الشباب في مصر يحظون بعناية كاملة من الدولة"، داعيًا خريجي الجامعات إلى تجنّب الوظائف الحكومية والاتجاه نحو العمل الحر والمشروعات الخاصة، معتبرًا أن "الدولة تدعمهم"، لكن أديب تجاهل تمامًا واقع البطالة المرتفعة في أوساط الشباب، والتي تتفاقم سنويًا بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومة. [14]

أما "أحمد موسى"، المعروف بقربه من الأجهزة الأمنية، فقد كرّر في برنامجه "على مسؤوليتي"، المذاع على قناة "صدى البلد" بتاريخ 11 ديسمبر 2023، أن "مشاركة الشباب في الحياة السياسية والانتخابات في عهد السيسي غير مسبوقة"[15]، مضيفًا أن "الشباب سطّروا ملحمة كبيرة أمام لجان الاقتراع، وهم دائمًا في صدارة المشهد الانتخابي"، وهو خطاب نمطي يتجاهل انخفاض نسب التصويت بين الشباب في معظم الاستحقاقات الانتخابية، وغيابهم عن التمثيل الفعلي في صنع القرار.

من جهته، خرج "نشأت الديهي" في برنامجه "بالورقة والقلم"، المذاع على قناة "تن" بتاريخ 28 أكتوبر 2019، ليؤكد أن "شباب مصر يدعمون القيادة السياسية، ويدركون أن ما تحقق خلال السنوات الماضية يُعد معجزة بكل المقاييس"، زاعمًا أن "مصر تحقق أعلى معدلات تشغيل منذ 30 عامًا، وأن البطالة انحسرت في أضيق الحدود"[16]، وهي تصريحات تتنافى مع تقارير رسمية ودولية تؤكد استمرار ارتفاع معدلات البطالة، خصوصًا بين خريجي الجامعات.

كل هذه العناوين تعكس خطابًا دعائيًا مكرّسًا، يفتقر إلى التنوع والمصداقية، ويعزز القطيعة بين الإعلام الرسمي وواقع الشباب المصري، الذي لا يجد نفسه ممثلاً في هذه المعالجات، بل يرى فيها مادة ترويجية تفتقر للعمق والمصداقية.

هذه أسباب عزوف الشباب

عزوف الشباب عن متابعة الإعلام المصري يعود إلى حزمة من الأسباب المتشابكة التي ترتبط بالمحتوى، وفقدان الثقة في المصداقية، وطبيعة الوسائط الإعلامية، إلى جانب تغيّر اهتمامات الجيل الجديد.

في مقدمة هذه الأسباب فقدان الثقة والمصداقية، إذ يشعر كثير من الشباب أن وسائل الإعلام التقليدية تمارس توجيهًا سياسيًا يخدم أجندات النظام العسكري الحاكم، بما يتناقض مع واقعهم اليومي، ما جعل شريحة واسعة منهم تشكك في صدقية الأخبار والبرامج المطروحة، معتبرين أن الإعلام لم يعد ينقل الحقيقة كما هي.

كما يواجه الإعلام المصري أزمة خطاب غير جاذب، إذ تحولت غالبية الصحف والقنوات إلى منابر لترديد إنجازات السلطة، متجاهلة القضايا الفعلية التي تمس الشباب، بينما تعتمد البرامج الإخبارية، وفي مقدمتها برامج "التوك شو"، على أسلوب الخطابة والمبالغة بدلاً من التحليل العميق، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى مقاطعة هذا النمط من المحتوى.

من جهة أخرى، ساعدت المنصات الرقمية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، على جذب الشباب لتكون مصدرهم الأساسي للأخبار والتعبير عن الرأي، في ظل الانهيار المهني للإعلام التقليدي.

ويُضاف إلى ذلك مشكلة تكرار المحتوى وغياب التنوع، إذ تتشابه الموضوعات وتتكرر الأفكار والبرامج بشكل يفتقر إلى الإبداع، مع انحسار التقارير الاستقصائية والموضوعات الجادة التي تمس حياة الشباب.

كذلك يعاني الإعلام المصري من انفصال واضح عن الواقع الشبابي، إذ لا يقدم معالجة معمقة لقضايا مصيرية مثل البطالة، الهجرة، ريادة الأعمال، أو التحديات الاقتصادية، فضلًا عن ضعف حضور الشباب في المنابر الإعلامية كفاعلين ومؤثرين، والاكتفاء بدورهم كمشاهدين سلبيين.

وإلى جانب ذلك، تسود هيمنة واضحة لبرامج الترفيه السطحية، من دراما ومطبخ وبرامج منوعة، على حساب المحتوى التحليلي والتثقيفي الهادف، ما يجعل الإعلام في نظر الشباب وسيلة للهروب من القضايا الجادة لا لمواجهتها.

أما على الصعيد الثقافي والاجتماعي، فقد انفصل الإعلام خلال العقد الأخير عن المشكلات الاجتماعية العميقة التي تواجه الشباب، مثل ارتفاع معدلات العنوسة، تفشي ظاهرة الانتحار، الطلاق المبكر، ضعف الوعي الأسري، والتفكك الاجتماعي.

كما أهمل دعم الثقافة العامة وتعزيز الفكر الجاد، وهو ما ساهم بشكل كبير في ابتعاد الشباب عن متابعة الإعلام المحلي، الذي لم يعد يعكس همومهم ولا يقدم حلولًا لمشكلاتهم[17].

الآثار المترتبة على عزوف الشباب

ترتب على عزوف الشباب عن متابعة الإعلام المصري جملة من الظواهر السلبية التي ألحقت خسائر فادحة بالمؤسسات الإعلامية، تقدر بالمليارات، وكان أبرزها الانخفاض الحاد في معدلات قراءة الصحف الورقية على مدار العقد الماضي.

وبحسب بيان صادر عن "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" في عام 2021، فقد ارتفع عدد الصحف المصرية المطبوعة من 59 صحيفة في عام 2020 إلى 61 صحيفة في العام التالي، بنسبة زيادة بلغت 3.4%، ثم ارتفع لاحقًا إلى 75 صحيفة، إلا أن هذا النمو العددي لم يُترجم إلى توسع في التوزيع أو زيادة في القراء، بل رافقه تراجع كبير في معدلات التوزيع اليومي.

وتجدر الإشارة إلى أن عدد الصحف المصرية بلغ ذروته في عام 2010، حيث وصل إلى 142 صحيفة، وكانت توزع آنذاك أكثر من مليوني نسخة يوميًا، لكن منذ انقلاب يوليو 2013، بدأ التوزيع يشهد تدهورًا متسارعًا، إذ انخفض إجمالي التوزيع اليومي إلى 539 ألف نسخة فقط بحلول نهاية عام 2019، ثم استمر في الانخفاض ليصل إلى أقل من 350 ألف نسخة في عام 2024، في مؤشر واضح على تآكل الثقة الشعبية، وتحديدًا من فئة الشباب، في الصحافة الورقية الرسمية"[18].

وعلى النقيض من الأرقام الرسمية التي تشير إلى تزايد عدد الصحف الصادرة، كشف الكاتب الصحفي "ممدوح الولي"، نقيب الصحفيين الأسبق ورئيس مجلس إدارة مؤسسة "الأهرام" سابقًا، عن واقع مغاير تمامًا لما تروّج له البيانات الحكومية، ففي تصريحات له في مارس 2018، أشار الولي إلى أن الصحف القومية تعاني من أزمات مالية ومهنية خانقة، مؤكدًا أن رقم الخمسين ألف نسخة يوميًا لا يتحقق فعليًا في أي من المؤسسات الصحفية القومية، باستثناء بعض الأعداد الأسبوعية.

وأوضح أن مجلات الأسبوع الصادرة عن هذه المؤسسات لا يتجاوز توزيعها ألف نسخة، بما في ذلك النسخ المجانية، رغم أن عدد سكان مصر حينها تجاوز 100 مليون نسمة، وهو ما يعكس فشلًا ذريعا في الوصول إلى الجمهور، وفقدانًا شبه كامل للصلة مع فئة الشباب تحديدًا، الذين لم يعد الإعلام الورقي يمثّل لهم مصدرًا يُعتد به للمعلومة أو التحليل[19].

ومن أبرز الآثار المترتبة على عزوف الشباب عن الإعلام المصري الرسمي، اتجاههم المتزايد نحو الإعلام البديل بمختلف وسائله، لا سيما مع الطفرة التكنولوجية الواسعة والانتشار الهائل لمنصات التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة.

وقد كان من الطبيعي أن يلجأ الشباب إلى فضاءات إعلامية أكثر انفتاحًا، تتيح لهم التعبير بحرية عن آرائهم ومواقفهم تجاه مختلف القضايا العامة، بعيدًا عن القيود والخطاب الموجّه الذي يهيمن على الإعلام التقليدي.

وفي هذا السياق، تناولت ورقة بحثية نشرها موقع "اندبندنت عربية" توجه الشباب المصري نحو المنصات الرقمية، مؤكدة أن كبار الصحفيين في مصر أنفسهم باتوا يعترفون بحجم المزاحمة التي بات يشكلها الإعلام البديل للمنظومة الإعلامية التقليدية، في ظل تعدد أدوات الاتصال، وتسارع التطور التكنولوجي، وانتشار المحتوى الرقمي بشكل غير مسبوق.

وخلصت الورقة إلى أن منشورًا واحدًا على موقع "فيسبوك" أو تغريدة عبر "تويتر" من شاب عادي، قد تُحدث صدى وتأثيرًا يتجاوز ما تنشره أقلام كبار الكُتّاب والصحفيين في الصحف الرسمية.

كما أكدت أن معظم دراسات الجمهور الحديثة تُجمع على أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المصدر الأول لجذب القراء، خصوصًا من فئة الشباب، الذين يبحثون عن محتوى سريع، حر، وتفاعلي، يجدون فيه صوتهم الحقيقي[20].

كما ترتب على عزوف الشباب عن الإعلام المصري تراجع ملحوظ في نسب مشاهدة القنوات الإخبارية، خاصة برامج "التوك شو" التي كانت في وقت من الأوقات تحظى بجماهيرية واسعة.

وبدلاً من ذلك، اتجه قطاع متزايد من الشباب إلى متابعة القنوات المعارضة والمستقلة التي تقدم خطابًا مختلفًا، أكثر تنوعًا وجرأة، في تناول القضايا العامة والشأن السياسي الداخلي.

ومن بين التداعيات السلبية لهذا العزوف أيضًا، تنامي ظاهرة اللامبالاة لدى بعض الشباب تجاه الشؤون العامة، وتراجع التفاعل مع الأحداث السياسية والقوانين الجديدة والسياسات الحكومية وحتى الأزمات المجتمعية.

كما انعكس غياب المصداقية على تآكل دور الإعلام في القيام بوظيفته الجوهرية كحلقة وصل بين المواطن والدولة، في ظل اتساع الفجوة بين الشباب والمؤسسات الرسمية، وازدياد شعورهم بالتهميش، وأحيانًا بالغربة داخل وطنهم.

وفي ضوء هذا الواقع المتأزم، يتضح أن استعادة الثقة المفقودة بين الشباب والإعلام المصري لن تكون ممكنة إلا من خلال إصلاح جذري وشامل، يبدأ من تطوير المحتوى الإعلامي ليكون أكثر جذبًا وتفاعلاً مع تطلعات الجيل الجديد، والالتزام الصارم بالمعايير المهنية في تغطية الأحداث، بما يشمل المصداقية، والموضوعية، والجرأة في الطرح، وفتح مساحات حقيقية للشباب للتعبير عن آرائهم بحرية، دون وصاية أو رقابة أو خطاب أبوي.


المصادر:

[1]  أسامة الرشيدي ، "مصر السياسات الإعلامية بعد 3 يوليو 2013" ، المعهد المصري للدراسات، 26 يونيو 2018 ، https://goo.su/HMyr3Z

[2]   ""أخونة" وزير الإعلام المصري بعد كشف ملمح من واقع الصحافة" ، العربي الجديد ، 18 أكتوبر 2020، https://goo.su/EEhw9

[3]  الم المحروقي، "دور وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو الأحزاب السياسية"، الجزيرة نت  ، 20 مايو 2018 ، https://2h.ae/prMo

[4]  "وسائل الإعلام والرأي العام" ، المدونة العربية ، 19 يناير 2025 ، https://2h.ae/KfJn

[5]   مصطفى شوقي ، "وزارة الدولة للإعلام.. بين الإفصاح عن المعلومات وصراع الهيمنة على الإعلام" ، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 31 ديسمبر2020 ، https://goo.su/fh6l8

[6]  "وزير الشباب والرياضة: تمكين الشباب المصري في الجمهورية الجديدة اهتمام رئاسي" ، الاهرام ، 31 أكتوبر 2024 ، https://goo.su/rbnt05

[7]  "وزير الخارجية: الوزارة تولي أهمية كبيرة للتفاعل المباشر مع الشباب المصري باعتبارهم طاقة الوطن ومستقبله " ، الاهرام ، 23 ابريل 2925 ، https://goo.su/SyC15

[8]  " 10 مكاسب لمنتدى الشباب فى نسخته الثالثة.. وكيل البرلمان: منصة حوارية لتبادل الأفكار ورسالة من أرض السلام.. "اللجنة التشريعية": جسر للتواصل وطرح الرؤى لمواجهة التحديات.. ولجنة الزراعة: انفتاح على العالم" ،  اليوم السابع، 18 ديسمبر 2019 ، https://goo.su/ngnWvv

[9]  "امانات شباب 42 حزبا يعلنون دعم الرئيس السيسي في الانتخابات الرئاسية " ، اليوم السابع ، 18 سبتمبر 2023 ، https://goo.su/qjtJN1H

[10]  "الشباب يسطرون معركة تاريخية فى الانتخابات الرئاسية.. نواب يشيدون بالملحمة الشبابية أمام اللجان على مدار 3 أيام.. محمد عمارة: اصطفاف الشباب كان مشهدا مبهرا.. ومحمد زين: رسالة للعالم بترابط المصريين" ،  اليوم السابع، 12 ديسمبر 2023 ، https://goo.su/jnNoqZx

[11]  " القيادة السياسية تؤمن بدور الشباب وتثق في قدراتهم" ،  الدستور ، 12 أغسطس2023 ، https://www.dostor.org/4473877

[12]  "الوطنية للانتخابات» تفتح حوارا مباشرا مع الشباب عن أهمية دورهم في الاستحقاقات  الدستورية" ، الوطن ، 16 أبريل 2025 ، https://2u.pw/IOJEb

[13]  " شباب مصر: ندعم موقف القيادة السياسية ضد مخططات تهجير الفلسطينيين" ،  الوطن ، 12 فبراير 2025 ، https://2u.pw/GdhfZ

[14]  "عمرو أديب يحذر الشباب: لا تكن موظفًا" ، مصراوي، 16 نوفمبر 2024 ، https://2u.pw/DEz1p

[15]  "أحمد موسى يشيد بنسب المشاركة في انتخابات الرئاسة: رقم تاريخي" ، الوطن ، 11 ديسمبر 2023 ، https://2u.pw/OUaBo

[16]  "نشأت الديهي: ما تحقق خلال السنوات الماضية معجزة بكل المقاييس" ، المصري اليوم ،28 أكتوبر2019 ، https://2u.pw/ifsjB

[17]  برنامج "شات .جي . بي . تي" للذكاء الاصطناعي "بتصرف"

[18]  إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لأعوام 2019 و2020 و2021

[19]   ممدوح الولي: الصحف القومية تنهار وتوزيع بعضها لا يتعدى ألف نسخة!" ،  عربي 21  ، 3 مارس  2018 ، https://cutt.us/5N23U

[20]   "هل سرقت "التغريدات" دور مقالات الرأي في الصحافة؟" ، الايام،  9 أغسطس 2023 ، https://goo.su/HvxD2mc