عالم جديد غير حقيقي.. هكذا يزيّف الساسة وعي الجماهير بأحدث الوسائل
الأربعاء - 18 آغسطس 2021
كتب إبراهيم هلال بحثا مطولا في موقع "الجزيرة نت"، مما جاء فيه: بعد أحداث الانقلاب العسكري الدامية بمصر، وفي إطار الحرب الإعلامية المستعرة لتشويه جميع المجموعات السياسية التي شاركت في انتفاضة 25 يناير/كانون الثاني 2011، استضافت إحدى الفضائيات المصرية عبر الهاتف عام 2014 ضيفا استثنائيا، قالت القناة إنه عضو "الاتحاد الأميركي للفلكيين"، وادَّعى "الضيف" أنه أجرى حوارا مع أحد الفضائيين "الذين يملؤون المجرات"، فحذَّره "الفضائي" من "قوى الشر" التي تشمل -حسبما جاء بالبرنامج- "جماعة الإخوان المسلمين" التي تساعد الفضائيين على غزو كوكب الأرض.
يبدو الأمر هزليا ولا يمكن أخذه على محمل الجد، لكن البرنامج نفسه أذاع تصريحات "الضيف الذي أجرى حوارا مع الفضائيين" باعتبارها حقيقة، وما يظنه المرء غير قابل للتصديق يبدو أن هناك قطاعات كبيرة من الناس مستعدة لتقبُّله ما دام قد أذاعه "الإعلام"، مهما بدا هزليا ومزيفا، هذا ما وضَّحته حلقة المراسل الذي اعتقلته السلطات المصرية مدة عامين "شادي أبو زيد"، عندما سأل عددا من الأشخاص في شوارع القاهرة عن حقيقة وجود "كائنات فضائية"، فلم تأته ردود الناس بالإيجاب والتصديق لما يأتي في الإعلام والأفلام الأميركية فحسب، بل حذَّر المصريون من أن الكائنات الفضائية يمكن أن تتآمر على مصر وتُغري شبابها بالأموال لزعزعة استقرارها.
نعيش اليوم حالة استثنائية في التاريخ البشري من تفشي الزيف، ونتعرَّض يوميا لموجات متتالية من تزييف الحقائق، وهو أمر لا يحدث في بلادنا فقط، بل ينتشر في العالم كله تحت تأثير آلات تزييف ضخمة لا تقتصر على الإعلام الذي يسيطر على عقول البشر ويتلاعب بها، بل تشمل وسائل أكثر تعقيدا أنتجها التطور التكنولوجي وتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تتحوَّل السياسة تحت تأثيرها إلى مجرد نوع من الألعاب اختفى معها مفهوم "الصالح العام"، وتضخَّمت المصالح الشخصية داخل دوامات مستمرة من التزييف، الذي يشمل ويمنع أي فرص مُحتمَلة للتغيير السياسي.
ليس المصريون وحدهم مَن يعتقدون بوجود كائنات فضائية تتآمر على دولتهم على ما يبدو، فخلال ثمانينيات القرن المنصرم، سجَّل أميركيون كُثُر في الولايات المتحدة مقاطع مصوَّرة لطائرات وأجسام مضيئة وغريبة تُحلِّق فوقهم بالسماء، وسرعان ما شرع الإعلام الأميركي في الحديث عمَّا عُرف واشتهر فيما بعد باسم "الأجسام الطائرة المجهولة" (UFOs)، ثم ظهر الخبراء والمحللون والمحققون المولعون بالأطباق الطائرة وأسرار الفضاء، وأخبروا الجمهور الأميركي بأنهم اطَّلعوا على وثيقة حكومية سرية للغاية، تؤكِّد زيارة عدد من المركبات الفضائية للأرض واحتجاز بعض الفضائيين في قواعد عسكرية خاصة.
وبنهاية الثمانينيات، اتضح أن القصة كلها مُختلَقة ومزيفة، أما الأجسام الطائرة المجهولة التي شاهدها وصوَّرها آلاف الناس فلم تكن سوى تجارب لأسلحة جديدة عمل الجيش الأميركي على تجربتها وتطويرها، إذ كانت المخابرات الأميركية ما زالت تعتقد أن الاتحاد السوفيتي يُخطِّط لمهاجمة أميركا والسيطرة على العالم. ولما كان من المستحيل إخفاء تلك التجارب، اختارت الحكومة الأميركية بعض سُكَّان المناطق القريبة من القواعد العسكرية لنشر الشائعات حول الأطباق الفضائية، فزرعت الفكرة داخل عقولهم، وأقنعتهم بأن الحكومة الأميركية تستضيف بعض الفضائيين في قواعدها العسكرية السرية بهدف التواصل والتعاون معهم، وأن عليهم كتمان السر لمصلحة الولايات المتحدة.
لم تقتصر تجارة الزيف في تلك الفترة على الولايات المتحدة. ففي الاتحاد السوفيتي، ذلك الكيان السياسي الذي نظر إليه سياسيون وأكاديميون كُثُر حول العالم بوصفه تحقيقا لأحد أحلام البشرية الكبرى بخلق عالم جديد فاضل، كان كل شيء ينهار تحت وطأة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ورغم ذلك، ظلَّ السياسيون والخبراء (التكنوقراط) يتظاهرون بأن كل شيء على ما يُرام ويسير وفق الخطة، وأنه ما من بديل سوى التظاهر بالعمل والإخلاص للوظيفة والوقوف في الطوابير والصياح بالنشيد الوطني والهتاف بسقوط الأعداء.
بحلول نهاية الثمانينيات، وقبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، بات المجتمع الروسي مجتمعا لا يؤمن فيه أحد بأي مستقبل، إذ لا يمكن لأحد أن يرى أبعد من النظام القائم، ولا يسع أحد أن يتخيَّل أو يُفكِّر في التغيير، فقد امتد التزييف لكل مناحي الحياة، وأصبح الجميع يتظاهرون بالتكيُّف مع الوضع القائم مهما بدا مُزريا، الأمر الذي سمَّاه أحد الصحفيين الروس بـ "التطبيع المُفرِط مع الزيف". وقد أتى هذا التطبيع مع الزيف متزامنا مع لحظة أخذ فيها العالم كما عرفه الناس على مدار قرن من الزمان يموت ويختفي، بينما لم يكن العالم الجديد قد وُلِد بعد.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبحت العقيدة السياسية الجديدة للعالم ليست هي "الثورة" أو "التغيير" أو "بناء عالم أفضل"، ولكن "إدارة العالم كما هو لتجنُّب أي كوارث واردة الحدوث". ومن أوائل المفكرين السياسيين الذين لاحظوا ذلك الأمر ووصفوا ذلك التغيير الدراماتيكي في عالم السياسة المفكر وعالم الاجتماع الألماني "أولريش بيك"، الذي قال إن "أي سياسي يعتقد أنه يمكنه السيطرة على المجتمع ودفعه إلى الأمام لبناء مستقبل أفضل ستنظر إليه جميع الأنظمة السياسية على أنه خطير ويجب استبعاده".
تتشابه ممارسات السلطات المصرية التي تهدف لإعادة تنظيم مصر بقُراها ومدنها وشوارعها، واحتكار اقتصادها كاملا والاستيلاء على أموال مواطنيها بالجباية، وإعادة تخطيطها عُمرانيا بشكل يُسهِّل السيطرة على المدن، تتشابه ونظام الاستعمار الإنجليزي القديم، إذ إن إعادة ترتيب الواقع وتزييفه -كما قال تيموثي ميتشل- هو جوهر العملية الاستعمارية.
المصدر الجزيرة نت