خطاب أردوغان حوْلَ نهاية الإرهاب أسّس لهوية تركية جديدة تتجاوز "الكمالية"

الأحد - 27 يوليو 2025

الدكتور أحمد أويصال أستاذ علم الاجتماع السياسي التركي لـ"إنسان للإعلام":

  • الخطاب قدم سردية قوية لنصر بلا مفاوضات أو مساومات أو صفقات أو تنازلات متبادلة
  • استخدم "أردوغان" مزيجًا قويًا من الاستراتيجيات البلاغية لتأطير نهاية الإرهاب وتحقيق السلام
  • الخطاب محاولة شاملة لمعالجة مظالم الماضي وتوجيه الطاقات نحو التنمية المستدامة
  • دعوة "أردوغان" للوحدة الوطنية استندت إلى عمقٍ حضاري متجذر في الأخوة الإسلامية
  •  انخراط "العمال الكردستاني" في المجتمع عملية معقدة محفوفة بتحديات كبيرة ولكنه خطوة مهمة للغاية

 

حوار- عبد الله الباسل

أكد البروفيسور أحمد أويصال، أستاذ علم الاجتماع السياسي التركي، أن خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان في 12 يوليو 2025، يمثل نقطة تحول تاريخية في مسار الدولة التركية، ويؤسس لمرحلة جديدة تقوم على المصالحة الوطنية، وإنهاء الإرهاب، وتوسيع مفهوم الهوية الجامعة للأتراك والأكراد والعرب.

وقال، في حوار خاص لمركز "إنسان للإعلام": إن أردوغان قدّم سردية قوية للنصر دون مساومة أو صفقات، معتبرًا أن إنهاء الأزمة مع الأكراد والإرهاب يشكل انتصارًا حاسمًا للدولة التركية، ويفتح صفحة جديدة في تاريخها الحديث، مشيرًا إلى أن عملية انخراط حزب العمال الكردستاني في المجتمع لا تخلو من التعقيد، لكنها تمثل خطوة تاريخية بالغة الأهمية في مسار التحول السياسي.
واعتبر أن "أردوغان" أعاد تعريف الهوية التركية، متجاوزًا الإرث الكمالي الذي حصرها في إطار قومي ضيق، نحو تصور شامل يحتضن كل مكونات المجتمع العرقية.

 كما نوّه إلى أن الرئيس استند في دعوته للوحدة الوطنية إلى عمقٍ حضاري متجذر في الأخوة الإسلامية والإرث العثماني، لبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة والمشاركة، ضمن مشروع "قرن تركيا" الطموح الذي يسعى لوضع البلاد في موقع ريادي إقليميًا ودوليًا، وتجاوز الحدود الطائفية والعرقية نحو تحالفات أوسع وأكثر استقرارًا.. وإلى نص الحوار:

■ ما هي أهم المرتكزات التي بنى عليها الرئيس "أردوغان" خطابه في 12 يوليو 2025؟

بنى "أردوغان" خطابه على عدة مرتكزات أساسية، أبرزها:

أولًا:  نهاية الصراع وانتصار تركيا وانتصار الدولة التركية وبدء صفحة جديدة باعتباره انتصارًا لكافة المواطنين البالغ عددهم 86 مليون مواطن، حيث أكد "أردوغان" أن حل القضية الكردية معناه توحيد الصفوف في عهد التحولات الحاسمة عالميًا.

ثانيًا:  الوحدة الوطنية والمدنية، وهو ما أكده "أردوغان" مشددًا على التماسك الوطني، وأن الجمهورية التركية هي الوطن المشترك والسقف الذي يظل جميع المواطنين، وأنهم متحدون وإخوة إلى الأبد بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية أو الطائفية.

ودعا المواطنين الأكراد والعلويين إلى حل أي قضايا من خلال الحوار البنّاء "دون سلاح أو عنف".

ثالثًا:  رؤية "قرن تركيا" الطموحة، حيث ربط "أردوغان" إنهاء الإرهاب بتحقيق رؤية "قرن تركيا" الطموحة، والتي تهدف إلى إعادة توجيه الموارد والطاقة الوطنية نحو التنمية المتسارعة والازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.

رابعًا:  الإصلاح الدستوري والتشريعي، بدعوته الصريحة للبرلمان لدعم تشريع واسع النطاق لتأسيس إطار قانوني ينظم عملية نزع السلاح والدخول في عملية سياسية مدنية تسع الجميع.

خامسًا:  رؤية متكاملة للأمن الإقليمي؛ حيث أكد "أردوغان" أن شواغل المواطنين الأكراد في العراق وسوريا تُعد أيضًا شواغل تركيا، وأبدى استعداد تركيا للتعاون مع "الحكومة السورية الجديدة" لخلق مناخ من السلام والأمن في المنطقة.

سادسًا:  الخطاب الشعبوي والاستدعاء التاريخي؛ استخدم "أردوغان" خطابًا شعبويًا لتوحيد "الشعب النقي" ضد "النخب الفاسدة" أو "الأعداء" الذين ينشرون "نظريات المؤامرة" و"الأكاذيب".

كما استدعى أحداثًا تاريخية مثل معركة ملاذكرد، وتحالف القدس، وحرب الاستقلال التركية.

■  بتحليل محتوى الخطاب، هل لمستم تصورًا محددًا بشأن "إنهاء الأزمة مع الأكراد والإرهاب"؟

بالتأكيد، يتضح تصور محدد بشأن "إنهاء الأزمة مع الأكراد"، والذي يمكن تلخيصه في نقاط منها إعلان النصر ونهاية الإرهاب، حيث أعلن الرئيس "أردوغان" بشكل قاطع أن "آفة الإرهاب دخلت مرحلة الزوال"، وأن تركيا "تفتح صفحة جديدة في التاريخ".
وقد جاء هذا الإعلان بعد بدء مسلحي حزب العمال الكردستاني (PKK) عملية تسليم أسلحتهم وحرقها رمزيًا في شمال العراق.

وشدد الرئيس على أن هذا "المشروع التركي الخالي من الإرهاب" ليس نتيجة "تفاوض أو مساومة"، بل هو "نصر لكل مواطن تركي، كردي وعربي، ولكل أبناء الأمة التركية البالغ عددهم 86 مليون نسمة".

وتضمن الخطاب الآليات المقترحة للتعامل مع المقاتلين، بتوجه أولي لفرز مقاتلي حزب العمال الكردستاني بإحالة من ارتكبوا أعمال عنف إلى القضاء، وخضوع من لم يتورطوا في العنف إلى برامج تأهيل لدمجهم في المجتمع.

وتضمن الخطاب التأكيد على الاستمرارية في مكافحة الإرهاب خارج الحدود، على الرغم من إعلان نهاية الإرهاب داخليًا، وأكد الخطاب على تصميم تركيا على منع تنفيذ سيناريوهات جديدة في سوريا، إما بنزع سلاح التنظيمات الإرهابية أو القضاء عليها.

■  هل نجح "أردوغان"، بهذا الخطاب، في توظيف استراتيجيات بلاغية محددة – مثل تأطير القضايا، أو الجاذبية العاطفية، أو جاذبية مصداقيته الخاصة - لبناء سرديته للسلام والانتصار؟

بشكل عام، استخدم "أردوغان" مزيجًا قويًا من هذه الاستراتيجيات البلاغية لتأطير "نهاية الإرهاب" كنصر حاسم، وبناء سردية للسلام والوحدة الوطنية، وتعزيز مكانته كقائد تاريخي قادر على تحقيق رؤية "قرن تركيا".

وذهب إلى تأطير "نهاية الإرهاب" كنصر شامل، فلم يقدم عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني كنتيجة لمفاوضات أو مساومات، بل كـ"نصر لكل مواطن تركي، كردي وعربي، ولكل أبناء الأمة التركية البالغ عددهم 86 مليون نسمة".

هذا التأطير يحول الحدث من تسوية سياسية معقدة إلى إنجاز وطني لا لبس فيه، مما يعزز شرعية الحكومة ويحشد الدعم الشعبي.

كما ذهب إلى تأطير الوحدة الوطنية، حيث دعا "أردوغان" إلى توحيد "الأتراك والأكراد والعرب"، مؤكدًا أنه "عندما تتحد القلوب تختفي الحدود"، مما يمنح الرجل مصداقية تاريخية ودينية كقائد يواصل مسيرة الأجداد.

واستدعى الجاذبية العاطفية من خلال استحضار التضحيات والمعاناة، مشيرًا إلى أن الإرهاب كلف تركيا "40 ألفا" من الأرواح، مؤكدًا أن " تراب الوطن سُقي بدماء شهدائنا الذين سيبقى إرثهم فوق رؤوسنا".

وهذا الاستحضار للمأساة المشتركة يثير التعاطف ويبرر "النصر" كخاتمة مستحقة لمعاناة طويلة.

هناك أيضا جاذبية مصداقيته الخاصة، حيث ظهر "أردوغان" كقائد حازم قاد تركيا لسنوات في مكافحة الإرهاب، مشيرًا إلى أن تركيا "أضعفت بشكل كبير قدرة حزب العمال الكردستاني على العمل في السنوات الأخيرة من خلال عمليات أمنية داخلية واسعة النطاق وهجمات عابرة للحدود". كما استند إلى الإرث التاريخي والديني، حيث استدعى روح "ملاذكرد" و"تحالف القدس" و"نواة حرب الاستقلال"، وهذا يربط الخطاب بهوية تركية وإسلامية عميقة الجذور.
ولم يقتصر "أردوغان" على التحالف بين الأتراك والأكراد فحسب، بل تحدث عن التحالف التركي الكردي العربي كمصدر للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

■  قال الرئيس "أردوغان" صراحة: إن "مشروع تركيا الخالية من الإرهاب ليس نتيجة مفاوضات أو مساومات أو صفقات".. كيف تحللون هذا الكلام؟

هذا التصريح جاء بهدف التأكيد على أن عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني كـ"نصر" حاسم للدولة التركية، وليس نتيجة لعملية تفاوضية أو تنازلات متبادلة أو "مفاوضات أو مساومات أو صفقات"، وأن هذا الإنجاز هو إملاء من جانب الدولة ونصر لها

كما ينفي وجود أي مساومات مع فصيل كان موصوفًا بالإرهاب، وهو ما يقطع الطريق أمام أي انتقادات داخلية أو خارجية قد تشير إلى أن الحكومة قدمت تنازلات لحزب العمال الكردستاني مقابل إلقاء السلاح.

■  برأيك، كيف حاول الخطاب بناء أو إعادة تعريف هويات "الأتراك والأكراد والعرب"؟

تاريخيًا، ارتبطت الهوية التركية بشكل كبير بالقومية الكمالية التي ركزت على هوية تركية أحادية، لكن خطاب "أردوغان" يعد تحولًا عن هذا المنهج، فقد أعلن عن هوية جامعة تتجاوز العرقيات، وأن "نهاية الإرهاب" هي "نصر وطني لكل مواطن تركي، كردي وعربي"، وهو يعيد تعريف مفهوم "الأمة التركية"، لتشمل جميع المكونات العرقية داخل تركيا.
وجاء هذا التعريف بهدف دمج المواطنين الأكراد بشكل كامل في النسيج الوطني، مستندًا إلى الإرث التاريخي الإسلامي والعثماني المشترك، وأن  المصالحة في تركيا ستصب إيجابًا على سوريا والعراق، مما سيضعف المطالب الانفصالية.

■  ما مغزى دعوة "أردوغان" لتوحيد "الأتراك والأكراد والعرب"؟

مغزى دعوة "أردوغان" لتوحيد "الأتراك والأكراد والعرب" يتجاوز مجرد المصالحة الداخلية، ويشمل أبعادًا جيوسياسية واقتصادية عميقة، وتهدف إلى تعزيز الوحدة الداخلية والاستقرار الداخلي لتركيا، وهو أمر حيوي لتحقيق رؤية "قرن تركيا".

فالوحدة الداخلية تسمح للحكومة بالتركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية بدلًا من استنزاف الموارد في مكافحة الإرهاب، كما تهدف إلى إعادة تشكيل النفوذ الإقليمي والدولي، والدعوة لرفض الانقسامات الاستعمارية ما بعد الدولة العثمانية، وبناء تحالفات جديدة بمفهوم الأمة الواسع. إنها رؤية مثيرة للاهتمام في ظل التغيرات الكبرى التي تشهدها المنطقة العربية والعالم بشكل عام.
ذلك بالإضافة إلى إعلان تحالف سياسي جديد يضم حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطي، من أجل زيادة عزل العناصر المتشددة، وتحييد مصدر طويل الأمد للاضطرابات الداخلية.

■  بأي معنى يمكن اعتبار خطاب "أردوغان" محاولة لهندسة المجتمع التركي من جديد؟

الخطاب هو محاولة شاملة لهندسة المجتمع التركي من خلال إعادة تعريف الهوية الوطنية، ومعالجة المظالم في الماضي، وتوجيه الطاقات نحو التنمية، وبناء عقد اجتماعي وسياسي جديد، مبني على مد جسور الثقة بين كل أعراق المجتمع التركي والدولة، بالحوار والسلام والمشاركة المبنية على المواطنة في الحفاظ على الدولة، وكل ذلك ضمن رؤية جيوسياسية طموحة تضع تركيا في موقع قيادي على الساحة الإقليمية والدولية.

■  برأيك، إلى أي مدى يمكن لحزب العمال الانخراط في المجتمع بعد عقود من التناحر؟

الحقيقة أن انخراط حزب العمال الكردستاني في المجتمع عملية معقدة وتحتوي على تحديات كبيرة، رغم معارضة بعض الأحزاب القومية الصغيرة التي تتبنى الخطاب الشعبوي كتنازلات ضد الإرهاب.

لكن قرار الحزب حل نفسه ونزع السلاح، الذي دعا له زعيم الحزب عبد الله أوجلان، هو خطوة تاريخية مهمة للغاية، ويفتح المجال أمام الحزب للانخراط في الحياة السياسية بشكل سلمي.
كما أن إعلان تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية مع حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يُنظر إليه على أنه الذراع السياسي للحركة الكردية، يفتح الباب أمام انخراط سياسي أوسع للأكراد، وربما يؤدي إلى تعديلات دستورية تضمن حقوقًا أكبر.

■  وهل تتوقع أن يغير الحزب خطابه في قابل الأيام؟

بعيدًا عن التوقعات، من المفترض أن يكون هناك تغيير في الخطاب العام لحزب العمال، وأن يتحول إلى الخطاب السياسي السلمي، والاندماج في النسيج الاجتماعي التركي، وبناء رؤية توافقية تعظم المصالح المشتركة، وتخدم رؤية المجتمع الشاملة لتحقيق دولة قوية تحمي حقوق كل من يحمل جنسيتها.