"البدل" أول أدوات الانتقام| حكومة "السيسي" تعاقب الصحفيين لاختيارهم نقيبا مستقلا!

الاثنين - 7 يوليو 2025

  • وزير المالية يتراجع عن زيادة بدل التكنولوجيا و أجهزة بالدولة تروج لإلغائه
  • جهات سيادية تطالب نقيب الصحفيين بمنع التظاهر لتمرير زيادة "البدل"
  • الجهات الأمنية تتجاهل طلب "البلشي" بالإفراج عن الصحفيين المعتقلين
  • الحكومة ترفض تعديلا  قانونيا قدمته النقابة لإلغاء الحبس في قضايا النشر
  • عرقلة تعيين المؤقتين بالصحف القومية وإعادة المفصولين من "المتحدة"

 

إنسان للإعلام- تقرير:

منذ إعلان نتائج انتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحفيين المصرية في مارس 2025، والتي أطاحت بمرشحي الحكومة وأفرزت مجلسًا نقابيًا مستقلًا برئاسة خالد البلشي، دخلت السلطة في مواجهة مفتوحة مع الجماعة الصحفية، مستخدمة أدواتها الأمنية والإدارية والمالية لفرض حصار متعدد الأوجه على النقابة ومجلسها المنتخب.

جاء فوز "البلشي" محملًا برمزيات سياسية وثقيلة، تمثلت في رفض الصحفيين لسياسات الإخضاع والمساومة، وهو ما قوبل برد فعل سلطوي عنيف، ترجمه النظام في صورة إجراءات انتقامية ممنهجة، استهدفت الصحفيين في أرزاقهم وحقوقهم الأساسية.

هذا التقرير، الذي يستند إلى وقائع موثقة وتصريحات رسمية ومصادر مطلعة، يتتبع أبرز أدوات العقاب التي تستخدمها السلطة المصرية ضد الصحفيين ونقابتهم، بدءًا من التلاعب في ملف بدل التكنولوجيا، ومرورًا بالتعنت في الإفراج عن الصحفيين المعتقلين، وتعطيل الملف التشريعي، ورفض تعيين المؤقتين، وصولًا إلى التوسع في الفصل التعسفي من المؤسسات الصحفية، ولا سيما تلك الخاضعة للهيمنة الأمنية.

التلاعب بورقة "البَدَل"

في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي يعاني منها الصحفيون في مصر، ومع سيطرة الأجهزة الأمنية على معظم الصحف والمواقع الإلكترونية، بات "بدل التكنولوجيا" الذي تُصرفه الحكومة شهريًا للمقيدين بجداول نقابة الصحفيين، يمثل العصب الاقتصادي الأساسي لآلاف الصحفيين وأسرهم.

تأتي أهمية هذا البدل في ظل الانهيار العام في أجور المؤسسات الصحفية، وندرة فرص العمل، وتزايد عمليات الفصل التعسفي للصحفيين، مما جعله موردًا ثابتًا يعتمد عليه كثير من المشتغلين بالمهنة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة.

توالت زيادات بدل التدريب والتكنولوجيا في عهود عدد من النقباء، منهم: مكرم محمد أحمد، ممدوح الولي، ضياء رشوان، يحيى قلاش، عبد المحسن سلامة، وأخيرًا خالد البلشي. وبلغت قيمته الحالية 3900 جنيه، وكانت آخر زيادة ضمن ما عُرف بـ"حزمة الحماية المجتمعية"، التي أعلن عنها عبد الفتاح السيسي في مؤتمر عام، في أول اعتراف رسمي صريح بأحقية الصحفيين في البدل، مما شكّل غطاءً قانونيًا إضافيًا لهذا المستحق المالي.

وفي مايو 2021، أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمًا نهائيًا وباتًا بأحقية جميع الصحفيين المقيدين بجداول المشتغلين وتحت التمرين في صرف بدل التدريب والتكنولوجيا، دون تمييز بين المؤسسات الصحفية، سواء قومية أو حزبية أو مستقلة، مطبوعة كانت أم رقمية، مؤكدة أن "بدل التكنولوجيا" ليس منحة، بل حق مهني لازم لممارسة العمل الصحفي في ظل تطورات تكنولوجيا الإعلام، وأنه جزء لا يتجزأ من البيئة المهنية اللازمة للصحفي كي يؤدي عمله بكفاءة، كما دعت المحكمة المشرع إلى تقنين هذا البدل وزيادة قيمته بما يتماشى مع متطلبات العصر.

وخلال الانتخابات الأخيرة لنقابة الصحفيين، أعلن المرشح المدعوم من الحكومة، عبدالمحسن سلامة، حصوله على وعد رسمي بزيادة البدل إلى 6000 جنيه، وأكّد وزير المالية حينها أن هذه الزيادة أُدرجت ضمن بنود الميزانية الجديدة تحت ما سُمي بـ"حزمة الحماية الاجتماعية".

لكن بعد فوز خالد البلشي بمنصب النقيب، تراجعت الحكومة عن إعلان الزيادة، وتجاهلت ذكرها تمامًا ضمن "الحزمة"، ما فُسّر على نطاق واسع بأنه عقاب جماعي للصحفيين الذين خالفوا إرادة الدولة.

ووفق مصادر نقابية، دخل "البلشي" في مفاوضات مع الجهات الحكومية بهدف انتزاع وعد بزيادة البدل إلى 5000 جنيه، لكن قوبل بتعنت غير مسبوق من الأجهزة الأمنية، مما دفعه إلى نشر تدوينة طالب فيها الصحفيين بالاستعداد لمواصلة نضالهم لاسترداد حقوقهم المادية والمهنية، في إشارة إلى إمكانية تصعيد نقابي وشيك ضد ما وصفه بتعنت الدولة.

وفي تطور لافت، سعت الحكومة إلى اقتطاع 10% من بدل التكنولوجيا كضريبة دخل، في خطوة أثارت غضب الصحفيين، الذين اعتبروا البدل دعمًا مهنيًا لا يخضع للضرائب. وبرز التفاوت في التطبيق بين المؤسسات الصحفية، حيث طبّقت بعض الصحف القومية مثل "الجمهورية" الخصم، فيما امتنعت "الأهرام" و"الأخبار" عن ذلك، ما أثار استياءًا واسعًا ودفع وزارة المالية إلى محاولة تعميم الخصم.

ورفضت النقابة ذلك بشدة، وأصرت على صرف البدل كاملًا لكل الصحفيين، بغض النظر عن تبعيتهم المؤسسية، وتولت صرفه مباشرة من خلال حساباتها الخاصة.

وفي خطوة اعتبرها كثيرون تصعيدًا غير مسبوق ضد الصحفيين، أقدم المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على خصم بدل التكنولوجيا عن 55 صحفيًا بجريدة "الطريق" عن أربعة أشهر (مارس – يونيو 2025)، دون إخطار نقابتهم أو إجراء تحقيق، ما يُعد انتهاكًا فاضحًا للأعراف القانونية والمهنية.

وكشفت نقابة الصحفيين أن المبلغ المخصوم بلغ 858 ألف جنيه، واستُند في القرار إلى شكوى شفوية من مالك الجريدة، وهو رجل أعمال صُدرت بحقه أحكام جنائية، وفصل الصحفيين بأثر رجعي دون اتباع المسارات القانونية.

واعتبرت النقابة ما حدث سابقة خطيرة، خاصة وأن الأموال المخصصة للبدل وصلت بالفعل إلى المجلس الأعلى، وكان من المفترض تحويلها للنقابة، وتم عقد اجتماع عاجل بين النقيب خالد البلشي ورئيس المجلس الأعلى، المهندس خالد عبد العزيز، انتهى بوعود بتحويل كامل البدل لشهر يوليو دون أي خصومات، ووضع خارطة طريق لحل الملفات العالقة، بما فيها اعتماد اللائحة الجديدة لصرف البدل.

وفي مواجهة الضغوط، أعلن "البلشي" أن النقابة تلقت تأكيدات من وزارة المالية بخصوص صرف الزيادة المرتقبة، نافياً الشائعات حول نية الحكومة إلغاء البدل أو تجميده، وقال: "لن أكون أداة لعقاب الصحفيين، ولا يجب أن تكون النقابة أداة عقاب من الأساس".

لكن، حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تعلن الحكومة رسميًا عن تنفيذ الزيادة، وسط تسريبات متضاربة بين نية الإلغاء أو الإبقاء على البدل دون تعديل، مما زاد من حالة الغضب في الأوساط الصحفية، ودفع البعض إلى المطالبة بالتصعيد والاعتصام داخل النقابة حتى إقرار الزيادة الجديدة.

التعنت بحق المعتقلين

من بين الملفات الشائكة التي تُستخدم للضغط على نقابة الصحفيين بعد فوز خالد البلشي، يبرز ملف الصحفيين المعتقلين كأحد أكثر القضايا حساسية، والتي ترفض الجهات الأمنية التعامل معها بجدية أو الاستجابة لمطالب النقابة بشأنها.

ويُقدّر عدد الصحفيين والصحفيات المحتجزين داخل السجون المصرية بـ44 صحفيًا، بينهم 22 صحفيًا من أعضاء النقابة.

ومنذ تجديد الثقة فيه نقيبًا، حرص "البلشي" على وضع ملف الصحفيين المحبوسين على رأس أولويات المجلس، وطالب بالإفراج الفوري عن كافة الزملاء المحتجزين على خلفية قضايا رأي، مؤكدًا أن أغلبهم يخضعون للحبس الاحتياطي، الذي امتد لفترات طويلة تخطت في بعض الحالات حدود القانون.

وفي بيان نشره على صفحته بموقع "فيسبوك"، أوضح "البلشي" أن هناك أكثر من 15 صحفيًا تجاوزت فترات حبسهم الاحتياطي عامين، وبعضهم تجاوز الخمس سنوات، بل إن بعض الحالات وصلت إلى سبع سنوات من الاحتجاز دون محاكمة.

وقال نصًا: "لا يحول دون الإفراج عنهم سوى رؤية مختلفة، وقرار سياسي وإنساني ووطني يضع حدًّا لهذه المعاناة الطويلة والممتدة".

وجدد "البلشي" موقف نقابة الصحفيين المطالب بالإفراج عن كافة الصحفيين المحبوسين، وكذلك العفو عن الزملاء الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية نهائية، مؤكدًا أن هذا المطلب لا ينفصل عن ضرورة إطلاق سراح جميع سجناء الرأي، وفي مقدمتهم المعارضون السلميون المحتجزون على خلفية تضامنهم مع القضية الفلسطينية.

وتزداد وتيرة المطالبة بالإفراج عن الصحفيين المعتقلين مع التدهور الصحي الخطير الذي يعانيه عدد من الزملاء المحتجزين، وفي مقدمتهم الصحفي أحمد سبيع، والصحفي المخضرم بدر محمد بدر، والنائب البرلماني السابق محسن راضي، وكذلك الصحفي ياسر أبو العلا، المعتقل مع زوجته وشقيقة زوجته، بالإضافة إلى الكاتب المعروف توفيق غانم، والصحفي أشرف عمر، وغيرهم.

وتشير مصادر مطلعة إلى أن النقيب خالد البلشي دخل في مفاوضات مطوّلة مع الأجهزة الأمنية للإفراج عن الصحفيين المحبوسين، ولو بشكل تدريجي وعلى دفعات، إلا أن تلك المساعي قوبلت بتعنت واضح ورفض تام من الجهات الأمنية، خاصة فيما يتعلق ببعض الأسماء المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، والذين تصر السلطات على إبقائهم قيد الاحتجاز.

وأفادت المصادر أن جهات سيادية أبلغت "البلشي" بضرورة عدم إثارة هذا الملف في وسائل الإعلام، ومطالبته بترك الأمور لتقديرات الأجهزة الأمنية وحدها، إلا أن البلشي رفض هذا الطرح، مؤكدًا أن مجلس النقابة مُجمع على أن الإفراج عن الزملاء المحبوسين لا يحتمل المزيد من التأجيل أو التغطية.

تعديلات تشريعية مطلوبة

في سياق الضغوط المتعددة التي يواجهها مجلس نقابة الصحفيين، يأتي الملف التشريعي كأحد أبرز الجبهات التي تشهد تعنتًا حكوميًا واضحًا، إذ اصطدمت مطالب النقابة بإصلاح البيئة القانونية المنظمة للعمل الصحفي بجدار من الرفض الرسمي، لا سيما بعد فتح النقاش حول تعديل المادة 12 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، التي تُعد واحدة من المواد الأكثر تقييدًا لحركة الصحفيين والمصورين في الشارع.

قرر مجلس النقابة الشروع في مراجعة المادة 12 كخطوة أولى لطرح توصيات "المؤتمر العام السادس للصحفيين"، والمتعلقة بمجموعة من التعديلات القانونية التي تمس حرية الصحافة.

وأوضح نقيب الصحفيين أن هذه المادة، في صيغتها الحالية، فُرضت لاحقًا عبر تعديل مفاجئ لم يكن موجودًا في المسودة الأصلية للقانون، وأضافت شرطًا بضرورة الحصول على تصاريح مسبقة للتصوير في الأماكن العامة، وهو ما أدى إلى تقييد فعلي لعمل الصحفيين، خاصة في أوقات وقوع الأحداث العاجلة أو الكوارث، حيث يُمنع الصحفيون من ممارسة دورهم في التغطية الميدانية دون إذن أمني.

وقال "البلشي"، خلال لقاء موسع نظمته النقابة مؤخرًا مع الصحفيين من أعضاء مجلس النواب: "ما حدث هو أن جزءًا كارثيًا أُضيف للمادة، نتحمل جميعًا كصحفيين ثمنه اليوم.. لا يمكن أن نعمل بتصريح أمني، فجزء من عملنا أن نكون أحرارًا في الشارع".

وأكد أن مجلس النقابة سبق أن اعترض رسميًا على هذه المادة أثناء إعداد القانون قبل صدوره، كما تقدّم عدد من أعضاء الجمعية العمومية حينها بمذكرة تؤكد رفضهم لها، لكن القانون أُقر بصيغته الحالية، ما أدى إلى إضفاء طابع أمني على عمل الصحفيين، يتناقض مع المعايير المهنية وحرية الصحافة.

وأشار البلشي إلى أن النقابة تسعى حاليًا لحذف الفقرة الأخيرة من المادة 12، التي تشترط الحصول على تصاريح للتصوير في الأماكن العامة، مؤكدًا أن هذا التحرك يأتي ضمن خطة أكبر لتحسين ظروف العمل الصحفي، حتى وإن كان يتحرك داخل مناخ سياسي عام يتسم بالتضييق.

وأضاف أن النقابة تعمل على جمع 60 توقيعًا من أعضاء مجلس النواب لتقديم طلب رسمي لتعديل المادة، إلى جانب التحرك من خلال المسارات القانونية للمجلس الأعلى للإعلام.

وأوضح أن المادة 12 ليست سوى جزء من أجندة تشريعية أوسع تسعى النقابة لفرضها على طاولة النقاش العام، وتشمل في مقدمتها مشروع قانون "منع الحبس في قضايا النشر"، والذي تمت صياغته بالفعل خلال جلسات المؤتمر العام السادس، بالإضافة إلى مشروع "قانون حرية تداول المعلومات"، باعتباره أحد المطالب الجوهرية للصحفيين منذ سنوات طويلة.

وأكدت مصادر مطلعة أن "البلشي" قرر طرح قضية تعديل المادة 12 أمام الرأي العام بعد أن تلقى مؤشرات سلبية من جهات معنية بالتشريع، تفيد بعدم وجود نية للاستجابة لمطالب النقابة المتعلقة بأي تعديل يخص حرية العمل الصحفي أو الحريات العامة. وأوضحت المصادر أن هذا التعنت دفع نقيب الصحفيين إلى الإعلان عن استعداد النقابة لخوض سلسلة من الخطوات النضالية، دفاعًا عن الحقوق المادية والتشريعية للصحفيين، معتبرًا أن التراجع عن هذا المسار لم يعد خيارًا في ظل الانتهاكات المتواصلة.

أزمة الصحفيين المؤقتين

وفي سياق التوتر المتصاعد بين نقابة الصحفيين والجهات الرسمية، يُعد ملف تعيين الصحفيين المؤقتين في المؤسسات الصحفية القومية أحد أبرز الملفات التي تشهد تعنتًا حكوميًا لافتًا.

ويُنظر إلى هذا التعنت باعتباره عقابًا جماعيًا على نتائج انتخابات النقابة الأخيرة، التي أطاحت بمرشحي الحكومة لصالح مرشحين محسوبين على تيار استقلال النقابة.

ففي 25 يونيو 2025، عقد مجلس نقابة الصحفيين مؤتمرًا موسعًا بمقر النقابة، خصص بالكامل لبحث أزمة تعيين الصحفيين المؤقتين في الصحف القومية، وهي الأزمة التي يعاني منها أكثر من 800 صحفي، ينتظر بعضهم حسم مصيره المهني منذ أكثر من 16 عامًا.

شارك في المؤتمر نقيب الصحفيين، وعدد من أعضاء مجلس النقابة، ونواب من البرلمان، إلى جانب عدد كبير من الصحفيين أعضاء الجمعية العمومية، وتركزت مطالب الحضور على ضرورة تفعيل قرارات التعيين المتوقفة، ووقف ما وصفوه بسياسة "المماطلة" التي تتبعها الجهات المعنية دون تقديم أي أسباب واضحة، أو تحديد جداول زمنية لتوقيع عقود التعيين.

وخلال المؤتمر، عبّر الصحفيون المؤقتون عن غضبهم إزاء استمرار تجاهل قضيتهم، خاصة في ظل إعلان الحكومة عن تعيين عشرات الآلاف في قطاعات أخرى، من بينها 30 ألف معلم، بينما ظل ملف تعيين الصحفيين المؤقتين يراوح مكانه، مغلفًا بالغموض وغياب الشفافية.

وجدد الصحفيون مطالبهم للهيئة الوطنية للصحافة ومجلس الوزراء بسرعة إصدار قرارات التعيين، وتوقيع العقود، وتحديد موعد واضح لتنفيذ ذلك، مشيرين إلى أن كثيرًا منهم يعمل بمكافآت شهرية هزيلة، لا تكفي لتغطية نفقات فرد واحد. كما أطلقوا دعوة لحملة تضامن واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وتعود جذور هذه الأزمة إلى إعلان الهيئة الوطنية للصحافة، منتصف أغسطس 2024، عن بدء إجراءات تعيين الصحفيين المؤقتين، عقب توقيع بروتوكول مع نقابة الصحفيين يقضي بتشكيل لجنة من مجلس النقابة وكبار الكتاب ورؤساء تحرير الصحف القومية، وتم حينها إجراء اختبارات مهنية لمئات الصحفيين العاملين، ما أعطى انطباعًا بأن مسار التعيين قد انطلق أخيرًا.

لكن، عقب خسارة مرشحي الحكومة في انتخابات النقابة، تراجع المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عن الاتفاقات التي أُبرمت مع النقابة، ولم تُعلن نتائج تلك الاختبارات، ولم تُصدر أية قرارات تعيين، ما أثار شكوكًا حول وجود نوايا مبيتة لتعطيل الملف

وفي نهاية يونيو، نظم عشرات من الصحفيين المؤقتين وقفة احتجاجية على سلالم نقابة الصحفيين، للمطالبة بحقوقهم، وتضامن معهم عدد من أعضاء مجلس النقابة، في مشهد أعاد إلى الواجهة قضية طال تأجيلها.

وفي محاولة على ما يبدو لامتصاص الغضب والحد من التصعيد، أبلغ المجلس الأعلى للإعلام نقيب الصحفيين بموافقته على تعيين 80 صحفيًا من المؤقتين، وأعلن البلشي هذا التطور في بيان رسمي، مقدّمًا الشكر للمجلس الأعلى، مع تأكيده على أن هذه الخطوة لا تكفي، مطالبًا بمواصلة الإجراءات لتشمل جميع الصحفيين المؤقتين، والبالغ عددهم نحو 800 صحفي، يعملون لسنوات طويلة دون أمان وظيفي أو عقود قانونية تضمن حقوقهم المهنية والاجتماعية.

ورقة الفصل التعسفي

وضمن الملفات التي تستخدمها الحكومة كأوراق ضغط مباشرة على نقابة الصحفيين ومجلسها، يبرز ملف "الفصل التعسفي" من المؤسسات الصحفية، خاصة تلك الخاضعة لسيطرة "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، والتي تشمل عددًا من الصحف مثل "اليوم السابع"، "الدستور"، "الوطن"، "المصري اليوم"، و"البوابة"، وغيرها.

ويشير مراقبون إلى أن هذه المؤسسات تحولت إلى أدوات تنفيذية لتصفية الحسابات مع الصحفيين غير المرضي عنهم سياسيًا أو نقابيًا، عبر قرارات فصل تعسفية، غالبًا ما تكون بلا سند قانوني أو مهني، وتستهدف تأديب الأصوات المعارضة وترهيب باقي الجسم الصحفي.

وفي هذا السياق، كشفت دراسة صادرة عن "المرصد المصري للصحافة والإعلام"، بعنوان "الفصل التعسفي... هيمنة للمؤسسات وتشريد للصحفيين"، أن المؤسسات الصحفية توسعت بشكل غير مسبوق خلال السنوات العشر الأخيرة في فصل الصحفيين تعسفيًا.

وأوضحت الدراسة أن المؤسسات كثيرًا ما تلجأ إلى ذرائع اقتصادية، أو أزمات مالية، أو خطط إعادة هيكلة، لتبرير قرارات فصل الصحفيين، في حين تكون الدوافع الحقيقية سياسية أو متعلقة بممارسة حرية الرأي والتعبير.

وأكدت الدراسة أن عدد الصحفيين الذين تعرضوا للفصل التعسفي خلال العقد الماضي تجاوز 3000 صحفي، وهو رقم صادم يعكس حجم التدهور في الحقوق المهنية داخل بيئة العمل الصحفي المصري.

وطالبت الدراسة بتفعيل دور نقابة الصحفيين في حماية أعضائها من الفصل التعسفي، وفقًا لما ورد في قانون النقابة، ودعت المشرع إلى تعديل القانون بما يمنح القضاء صلاحية إلغاء قرارات الفصل التعسفي وإعادة الصحفي إلى عمله في حال استمرار المؤسسة في مزاولة نشاطها.

كما شددت على ضرورة التزام المؤسسات الصحفية بصرف بدل التكنولوجيا والتدريب للصحفيين المفصولين تعسفيًا، إلى جانب تعديل قانون النقابة بما يمنحها حق فرض غرامات على المؤسسات المخالفة.

وأوصت كذلك بضرورة احترام المؤسسات الصحفية والدولة لأحكام القضاء، والكف عن استخدام آراء الصحفيين الشخصية مبررًا للفصل، مشيرة إلى أن حرية الرأي والتعبير مكفولة بالدستور والقانون، ولا يجوز اتخاذها ذريعة لمعاقبة الصحفيين.

وأفادت مصادر مطلعة بأن نقيب الصحفيين خالد البلشي دخل في مفاوضات مباشرة مع مسؤولي الشركة المتحدة بشأن قضية الفصل التعسفي، لكن هذه المفاوضات لم تُسفر عن نتائج ملموسة، خاصة فيما يتعلق بالصحفيين الذين فُصلوا بسبب مواقفهم السياسية أو تعبيرهم عن آراء تخالف الرواية الرسمية.

وأصدرت لجنة الدفاع عن استقلال الصحافة التابعة للنقابة بيانًا شديد اللهجة أعربت فيه عن أسفها لاستمرار مسلسل الفصل التعسفي، مؤكدة أن بعض الصحفيين تم الاستغناء عنهم رغم خدمتهم الطويلة، في تجاهل تام لأي اعتبارات مهنية أو قانونية، حتى لو كانوا أعضاءً في النقابة أو متدربين أمضوا سنوات في العمل الصحفي داخل مؤسساتهم.

وفي خطوة تعكس تصاعد الغضب داخل الجسم الصحفي، أعلنت الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين خلال مؤتمرها العام الذي سبق الانتخابات الأخيرة، موافقتها على إحالة رؤساء تحرير المؤسسات التي مارست الفصل التعسفي إلى التحقيق النقابي، في سابقة تعكس تحوّلًا واضحًا في موقف النقابة من سياسة الصمت إلى المواجهة.

من مجمل ما سبق، يتضح بجلاء أن حكومة عبد الفتاح السيسي، وبعد سقوط مرشحيها في انتخابات نقابة الصحفيين الأخيرة، لجأت إلى شن حملة منظمة من الإجراءات العقابية بحق الصحفيين ونقابتهم المنتخبة.

تنوعت هذه الإجراءات بين التلاعب في ملف بدل التكنولوجيا، وعرقلة التعديلات التشريعية الخاصة بحرية الصحافة، والتعنت في الإفراج عن الصحفيين المعتقلين، وتعطيل تعيين المؤقتين، والتوسع في الفصل التعسفي، وهي ملفات تمثل، مجتمعة، محاولة مكشوفة لإخضاع إرادة الصحفيين وتقييد دور نقابتهم في الدفاع عن الحقوق المهنية والاقتصادية والسياسية لأعضائها.