تمرير هادئ .. تعليمات رسمية في مصر بتجاهل الملء الثالث لسد النهضة!

الاثنين - 30 مايو 2022

بينما تستمر إثيوبيا في أعمال تعلية سد النهضة على قدم وساق ، وتعترف لوسائل إعلام دولية بأن الملء الثالث سيضر مصر والسودان، تتبع القاهرة أسلوبا غامضا في التعامل مع الأزمة يوحي بأنها استسلمت للأمر الواقع.

وخلال الأيام الأخيرة برزت ثلاثة أمور جوهرية أثارت جدلا كبيرا بشأن إستراتيجية تعامل النظام المصري مع ملف السد الإثيوبي الذي يمثل تهديدا وجوديا على حياة ملايين المصريين، بحسب موقع "الاستقلال".

أول هذه الأمور، تجاهل الأنباء الواردة عن مواصلة إثيوبيا ملء السد وتعليته، والاكتفاء بالتشكيك في قدرتها على الملء الثالث بطاقة 18.5 مليار متر مكعب رغم أن كل المؤشرات تؤكد العكس بحسب خبراء بمجال المياه.

والأمر الثاني: صمت القاهرة عن اعتراف إثيوبيا أن الملء الثالث سيؤثر على مصر والسودان، حسبما أكد مدير سد النهضة كيفلي هورو، لقناة "العربية" السعودية، في 27 مايو / أيار 2022، وعدم اكتراث بلاده باحتجاجاتهما.

والثالث: قيام السلطات بفرض نوع من التعتيم على أخبار السد الإثيوبي في الصحف المصرية واكتفاء المسؤولين بالتصريح المكرر أنهم يطالبون باتفاق ملزم قبل الملء الثالث.

تعتيم غريب

وفي تصريحاته الأخيرة، أقر مدير سد النهضة الإثيوبي، باحتمال تأثر مصر والسودان بعمليات ملء السد، مؤكدا إلى أن الملء الثالث سيكون في أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2022.

ورغم التأثيرات المحتملة على دولتي المصب، استبعد "كيفلي هورو" إيقاف عملية الملء الثالث، مدعيا أنها "عملية تلقائية"

كما كشف عن أن الطاقة التي تم تدشينها من السد دخلت ضمن شبكة الكهرباء في إثيوبيا، مشددا على أن عملية بناء سد النهضة لن تتوقف لأي سبب كان.

في حين، أعلن البدء في تجربة التوربين الثاني لإنتاج الكهرباء خلال أسابيع، لافتا إلى أن تصريحات مصر والسودان بشأن خطورة وتأثيرات السد لا تعني إثيوبيا، معللا ذلك، بأن إثيوبيا لم تتخط ما اتفق عليه عام 2015 بخصوص عمليات الملء.

من جانبها، رفضت وزارة الخارجية السودانية، في بيان أصدرته 28 مايو، تصريحات مدير سد النهضة الإثيوبي، على أنها تسمم الأجواء الإيجابية.

كما طالبت المسؤولين الإثيوبيين بالكف عن التصريحات غير المنضبطة والالتزام بمبادئ الدبلوماسية، مؤكدة تجاهل أديس أبابا لموقف السودان الثابت من عملية ملء وتشغيل السد إلا بعد التوصل إلى اتفاق قانوني منصف وملزم يحقق مصالح شعوب الدول الثلاث.

أيضا عبرت عن دهشتها من عدم اكتراث المسؤول الإثيوبي للأضرار المحتملة على الجانب السوداني رغم اعترافه باحتمال تأثر كل من السودان ومصر بعملية الملء الثالث، "مما يشير إلى أن إثيوبيا تريد المضي قدما في مواقفها الأحادية السابقة".

وعلى نقيض الموقف السوداني، لم يثر وزير الخارجية المصري سامح شكري هذا التطور الإثيوبي الخطير في اتصال هاتفي أجراه مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن في 28 مايو، وفق بيان لوزارة الخارجية المصرية.

كما وصلت تعليمات للصحف المصرية، بتجاهل أخبار استكمال سد النهضة والملء الثالث للسد مع اقتراب الفيضان في يونيو/ حزيران 2022، حسبما كشف صحفيون مصريون.

وأوضح عدد من الصحفيين المصريين رفضوا الكشف عن هوياتهم لـ"الاستقلال"، أن التعليمات تركز على نشر تصريحات المسؤولين المصريين فقط بشأن "فشل الملء الثالث، وفشل المفاوضات وإصرار مصر على اتفاق ملزم وأن المياه قضية وجودية"، رغم تحكم إثيوبيا الواضح في النيل.

وأكدوا أن تعليمات سابقة في أبريل/نيسان 2022 طالبت بالتركيز على فشل إثيوبيا في تحقيق سيناريو وصول تخزين مياه السد في الملء الثالث إلى سعة إجمالية 18.4 مليار متر مكعب، عبر نشر أراء خبراء موالين للسلطة يشككون في إمكانية إتمامه.

أمر واقع

ومع اقتراب الملء الثالث، تغيرت توقعات خبراء مياه مصريون بشأن قدرة إثيوبيا على الوصول بارتفاع السد في 10 أغسطس/آب 2022 إلى 595 مترا مربعا بعدما كانوا يشككون في قدرة إثيوبيا على ذلك.

ويعني الوصول إلى هذا الارتفاع امتلاء السد بـ 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، ما يؤدي للوصول لنقطة اللا رجعة، أي عدم قدرة مصر على القيام بعمل ضد السد.

ومن بين هؤلاء الخبراء، كان أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي، يتحدث بوتيرة دورية منذ 2021 عن فشل إثيوبيا في تخزين 18.5 مليار متر مكعب.

وحين سئل عن الموقف لو نجحت إثيوبيا في ذلك، زعم لموقع "مصراوي" المحلي في 27 أبريل 2022، أنه حال وصول إثيوبيا إلى 18.5مليار متر مكعب "لن تتضرر مصر في الوقت الحالي"

لكن اقتراب إثيوبيا من تحقيق السيناريو الذي روجت مصر لعدم حدوثه، لتهدئة الرأي العام وترحيل الأزمة عاما آخر حتى الملء الرابع عام 2023، دفع الأجهزة الأمنية لمطالبة الإعلام بعدم التطرق لنجاح خطة إثيوبيا في التخزين الثالث، وذلك خشية مزيد من التوتر في الشارع، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية ومخاوف أمنية من تصاعد الغضب الشعبي، انعكست على تعليمات أمنية متتالية بما في ذلك تهديد قيادات عمالية.

وفي تصريحات لقناة سكاي نيوز عربية من منتدى دافوس العالمي في 24 مايو 2022، أكد وزير الخارجية المصري أن "الجهود لم تسفر حتى الآن عن اتفاق حول قضية سد النهضة".

وكرر الحديث عن أن "قضية سد النهضة وجودية مرتبطة بأمن مصر ومواطنيها، وسنظل نوليها الأهمية والتركيز اللازم ونعمل بكل جد لدفع الأمور نحو الأمام والاتفاق القانوني الملزم بعيدا عن الصراع واللجوء إلى الوسائل العسكرية"

وسبق أن أكد مصدران لـ"الاستقلال"، أن تحمس بعض الخبراء العسكريين في وسائل الإعلام، ليقولوا إن مصر لن تسكت وستضطر للحرب، هو حفظ لماء الوجه، واستهلاك إعلامي لأن وقت الخيار العسكري يضمحل أو شبه انتهى مع تعبئة السد.

ويقول خبراء عسكريون إنه كلما امتلأ السد بكميات أكبر من المياه أصبح استخدام الخيار العسكري كحل أخير مستبعدا، وإلا أغرقت المياه مدنا سودانية، ولو دمر وهو ممتلئ بأكمله (74 مليار متر مكعب) سيتعرض السودان ومدن مصرية للغرق.

وخلال اجتماع في 11 مايو 2022 مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، كرر السيسي الحديث عن ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني وملزم بشأن عملية ملء السد وتشغيله بما يحفظ الأمن المائي لمصر.

من جانبه، قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحفي في 15 مايو، إن "لمصر حقوقا تاريخية واضحة بنهر النيل، ولن نقبل أي ضرر على مواردنا المائية"، دون أن يوضح ما الذي تبقى لدى مصر من أدوات ضغط لتحقيق ذلك.

وسخرت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية في 5 أبريل 2022، من هذا الموقف المصري الغريب الذي وصفته بأنه "مؤيد ضمنا" لإثيوبيا، متسائلة: "ماذا فعلت مصر لتنفيذ تهديدها والدفاع عن إمدادات المياه بعد عقد من الزمان من التهديدات؟".

وقالت إن "في الشرق الأوسط ومصر، إذا أدلى القادة بتصريحات، يكتفون بها كأنهم فعلوا شيئا ملموسا، وفعلوا ما عليهم، ولا يلزم اتخاذ أي إجراء، ويستمرون في حياتهم بشكل عادي"!

الملء الأخطر

على الصعيد التقني، كشف الخبير في شؤون مصر المائية هاني إبراهيم، أنه وفق تقديرات ومصادر دولية، نجحت إثيوبيا في 2 مايو 2022 بالانتهاء من رفع تعلية السد إلى 577 مترا، ويوم 24 مايو تم الانتهاء من 581 مترا.

وأضاف في سلسلة تغريدات، عبر تويتر، أنه متوقع يوم 4 يونيو 2022 الوصول لارتفاع 583 مترا، وهو منسوب تشغيل مثالي لأول توربينين منخفضين.

وأوضح أنه مع دخول يوم 29 يوليو سيكون علو السد 593 مترا، ما يعني الوصول لمنسوب إجراء تجارب على أول توربين علوي أيضا.

ويحذر من أن أقصى طاقة تعلية للسد ستكون يوم 10 أغسطس بالانتهاء من 595 مترا، ما يعني امتلاء السد بـ 18.4 مليار متر مكعب.

وسيعني هذا أن تستمر خطط إثيوبيا بلا عقبات لرفع منسوب السد في السنوات اللاحقة لتصل إلى منسوب 640 مترا الذي يعادل 74 مليار متر مكعب من المياه، وهي سعة تخزين السد، بما يعني خصم قرابة 15 مليار متر مكعب من نصيب وحصة مصر سنويا، المقدرة بـ55 مليار متر مكعب.

من جانبه، أكد كبير المحللين في شؤون إثيوبيا بمجموعة الأزمات الدولية ويليام دافيسون لموقع "المونيتور" الأميركي في 3 مايو، أنه لا توجد مفاجآت في رفع ارتفاع الممر الأوسط لسد النهضة ليصل 18.5 مليار متر مكعب كما تخطط إثيوبيا.

وأضاف: "مثلما اعترضت دول المصب على الملء الأول والثاني لخزان السد، دون التوصل إلى اتفاق بشأن قواعد هذا الملء والتشغيل من قبل أديس أبابا، ستقوم إثيوبيا بالتعبئة للعام الثالث، وستحتج مصر والسودان بلا جدوى".

وأشار دافيسون إلى أن "الظروف والتحديات السياسية والاقتصادية في الدول الثلاث ستلقي بظلالها على مستقبل مفاوضات سد النهضة المتوقفة، وهذا من شأنه أن يقلل من فرص اتخاذ القادة القرارات الجريئة اللازمة لتقديم تنازلات للتوصل إلى اتفاق".

وفي نفس الاتجاه، توقع الباحث بمركز إفريقيا التابع للمجلس الأطلسي، المسؤول السابق في الخارجية الأميريكية كاميرون هدسون أن يؤدي استمرار بناء السد لجعل استئناف المفاوضات النهائية "أمرا صعبا للغاية"

وحذر هدسون لـ"المونيتور"، من أن المخاوف ترجع أساسا إلى "سنوات الجفاف التي ستزيد من حدة التوترات وتجعل التوصل إلى اتفاق نهائي أكثر صعوبة"

وتخشى مصر من أن تشغيل السد الذي تبنيه أديس أبابا على النيل الأزرق سيؤثر على إمداداتها المائية من نهر النيل، الذي تعتمد عليه مصر في 97 بالمئة من احتياجاتها من الري ومياه الشرب.

خدعة المفاوضات

ويقول مراقبون وخبراء إن اثيوبيا تتعمد مع اقتراب كل فترة ملء للسد، طرح فكرة التفاوض دون تحديد موعد أو جدول زمني، لتهدئة مصر والسودان وخداعهما عبر الإعلان عن سعيها لاتفاقات معهما بشأن قضايا الملء دون أن يتحقق شيء.

ضمن هذا الخداع عادت إثيوبيا لتعلن يوم 13 مايو 2022 التزامها بإيجاد حل ودي مع مصر والسودان للقضايا العالقة المتعلقة بسدها الكهرومائي العملاق، في ظل عدم وجود أي اتفاق بين الدول الثلاث، وهو ما قالته أيضا في الملأين السابقين.

وزعم وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين في 17 مايو أمام أعضاء البرلمان الإثيوبي، "التزام بلاده بتسوية النزاع وإيجاد حل ودي للقضايا العالقة بشأن سد النهضة الإثيوبي"

وفشلت محاولات الاتحاد الإفريقي في التوسط لإنهاء جمود المفاوضات الثلاثية منذ يونيو 2020، وكانت آخر الجولات الفاشلة في الكونغو الديمقراطية، في أبريل 2021، وفشلت في التوصل إلى "اتفاق لاستئناف المفاوضات"

ويؤكد دبلوماسي مصري سابق لـ "الاستقلال"، مفضلا عدم ذكر اسمه، أن أزمة السد الإثيوبي فقدت الزخم الدولي بشكل كبير خلال الفترة الماضية بسبب انشغال الغرب بالحرب الروسية الأوكرانية.

وضمن هذا الخداع الإثيوبي، كان لافتا سعي أديس أبابا للتأثير على الموقف الأميركي، عبر تعيين وزير المياه والري سيليشي بيكيلي سفيرا جديدا للولايات المتحدة في 6 مايو، في خطوة تهدف إلى مواجهة الجهود المصرية لجذب دعم واشنطن.

ويرى محللون أن تعيين "بيكيلي" محاولة من أديس أبابا للترويج لوجهة نظرها فيما يتعلق بنزاع سد النهضة مع مصر والسودان وكذلك الصراع في إقليم تيغراي الإثيوبي.

وجاء تعيين بيكيلي سفيرا جديدا لإثيوبيا لدى الولايات المتحدة بعد أسابيع قليلة من زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لواشنطن في 11 أبريل/نيسان 2022 لإجراء محادثات مع المسؤولين الأميركيين بشأن قضايا عدة، ومن بينها سد النهضة.

وقالت مصادر دبلوماسية لصحيفة "العربي الجديد" في 4 مايو، إن شكري طلب من الإدارة الأميركية الضغط على أديس أبابا للدخول في جولة جديدة من المفاوضات مع القاهرة والخرطوم للتوصل إلى اتفاق لملء وتشغيل السد.

وفي سياق متصل، "ثمة عوامل تاريخية وثقافية وحتى لاهوتية تدفع إثيوبيا لسلوك أسلوب إمبراطورية الحبشة تجاه دول الجوار"، حسبما يوضح أستاذ الدراسات الإفريقية في مصر الدكتور حمدي عبد الرحمن.

ويضيف: يعتقد كثير من الأحباش أن بلادهم متميزة ثقافيا ومختارة من منطلق لاهوتي ديني حتى أنهم في كل احتفال بذكرى انتصارهم على إيطاليا في معركة "عدوة" يوم 1 مارس 1896، يصورون سد النهضة كرمز وانتصار جديد.

ويتابع: "هم يعدون أن مصر العدو الذي يمثل تهديدا للأمن القومي الإثيوبي، لذا يتبعون كافة الأساليب لمحاصرتها وعزلها وتقويض نفوذها في منطقة القرن الإفريقي، وسد النهضة هو أداتهم للتحكم والسيطرة الإستراتيجية لخنق مصر".

المصدر: صحيفة الاستقلال