تسييس الدراما المصرية.. كيف تحولت الشاشات إلى أداة لهدم القيم وتزييف الوعي؟
الأربعاء - 5 نوفمبر 2025
- تحت الحكم العسكري.. الدراما تحولت إلى وسيلة لتكريس الانحلال الأخلاقي والعنف وتزييف الوعي
- تكرار نماذج البلطجة في المسلسلات روّج لغة مبتذلة بين الشباب ورسّخ صورة البلطجي كبطل!
- تفشي مشاهد الخيانة والمخدرات والعري في "دراما رمضان" بعد توجيه الفن لخدمة أجندات سياسية
- أعمال درامية مشبوهة تُشوّه التاريخ الإسلامي وتهاجم رموزه تحت شعارات الحداثة والانفتاح الثقافي
- دراسات ميدانية تُحمّل الدراما مسؤولية تصاعد العنف والقتل الأسري والتحرش والاغتصاب
- دعوات لتفعيل دور الأزهر في مراجعة الأعمال الفنية وضبط معاييرها بما يحمي الهوية المصرية
"إنسان للإعلام"- تحقيق:
شهدت الدراما المصرية خلال العقد الأخير تحولا لافتا في مضمون العديد من أعمالها، منذ ما بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013م، إذ انحرفت عن رسالتها التنويرية التي طالما ميزتها، لتتحول في كثير من الأحيان إلى أداة تكرّس الانحلال الأخلاقي وتبرر العنف والجريمة، مما أضعف منظومة القيم الدينية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع المصري، بل حدثت تحولات خطيرة في المجتمع بفعل هذه الدراما، إذ أصبحت الجريمة-بكافة أنواعها- منتشرة في الشارع المصري.
في هذا التحقيق، نفتح ملف تسييس الدراما المصرية لرصد مظاهر الانحراف التي أصابت محتواها، والتساؤلات المتصاعدة حول المسؤولية الفنية والمجتمعية لصناع الدراما، ودور الجهات الرسمية، وفي مقدمتها شركة الإنتاج "المتحدة" المحسوبة على جهاز المخابرات، في توجيه هذا الفن وتطويعه لخدمة أجندات سياسية على حساب رسالته التوعوية ودوره الأصيل في دعم الأخلاق العامة والتعبير عن هموم المجتمع ومشكلاته.
مظاهر انحراف الدراما
من أبرز مظاهر انحراف الدراما المصرية في السنوات الأخيرة، تفشي مشاهد العنف والإدمان والخيانة، دون أي معالجة تربوية جادة أو رؤية أخلاقية واضحة.
وتكمن خطورة هذا المسار في تقديم نماذج سلبية يراها الشباب قدوة ومصدر إلهام، بما يعزز القيم السطحية ويغذي التقليد الأعمى، وينشر مفاهيم مشوهة عن الحرية والنجاح.
على سبيل المثال: ساهمت بعض المسلسلات في تكريس لغة عامية ركيكة وألفاظ مبتذلة، وروّجت للعنف والمظاهر الزائفة، ما انعكس سلبًا على سلوك النشء وأضعف منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية في المجتمع المصري.
وقد انتشرت بين الشباب والمراهقين في السنوات الأخيرة ألفاظ دخيلة وعنيفة استُقيت من الأعمال الدرامية، فانعكست سلبًا على لغة الخطاب المجتمعي، وأسهمت في ترسيخ صورة البلطجي كبطل شعبي، تحت شعارات زائفة مثل "الجدعنة" و"الحق المسلوب". وأصبح العنف يُقدَّم في بعض الأعمال كوسيلة مشروعة لتحقيق العدالة أو إثبات الرجولة، ما أفرز جيلاً مبهورًا بنماذج منحرفة عن القيم الحقيقية للمجتمع.
وفي هذا السياق، كشف تقرير رسمي أصدره المجلس القومي للمرأة عام 2019 أن الدراما المصرية باتت تعج بمشاهد التحرش والعنف والألفاظ الخادشة والملابس غير اللائقة.
وأشار التقرير، الذي أعدّته لجنة الإعلام بالمجلس، إلى أن عددًا كبيرًا من المسلسلات تضمن مشاهد عنف ضد المرأة والطفل، واستخدمت ألفاظًا بذيئة وملابس غير محتشمة، فضلًا عن الإكثار من مشاهد تعاطي المخدرات والإيحاءات الجنسية بشكل مفرط.
كما أدان التقرير تزايد ظهور مشاهد التدخين والإدمان بين النساء، وتناول قضية التحرش اللفظي والمادي في أكثر من عمل درامي، محذرًا من أثر ذلك في تكوين صورة ذهنية مشوهة عن المرأة المصرية.
وبيّن التقرير أن موضوع العنف الأسري تصدّر محتوى العديد من المسلسلات، ما خلّف تأثيرًا سلبيًا على القيم الأسرية والتماسك الاجتماعي. وفي السياق ذاته، أصدرت اللجنة نفسها تقريرًا مفصلًا عن الدراما الرمضانية لعام 2025، أكدت فيه أن معظم المسلسلات ركزت على الخيانة الزوجية وكأنها ظاهرة عامة في المجتمع المصري، مما ساهم في ترسيخ صورة المرأة الخائنة والمتآمرة.
ورصد التقرير انتشار مشاهد المخدرات والتدخين والإدمان، مستشهدًا بعدة أعمال منها: إش إش، أهل الخطايا، فهد البطل، ولاد الشمس، أثينا، العتاولة 2، أم أربعة وأربعين، الشرنقة.
وأدان التقرير الإكثار من المشاهد الخادشة للحياء واستخدام الألفاظ غير اللائقة والملابس العارية، موضحًا أن هذه الظواهر باتت سمة متكررة في عدد كبير من المسلسلات.
كما أشار إلى إساءة بعض الأعمال لمهن محترمة في المجتمع المصري، مثل مهنة الصيدلة التي صُوّرت في بعض المسلسلات وكأن أصحابها يبيعون المواد المخدرة لتحقيق الربح، كما في مسلسل "أهل الخطايا"، إضافة إلى تشويه صورة مهنة التدريس في المدارس والجامعات، كما ورد في مسلسلي أثينا وجريمة منتصف الليل.
وأعرب التقرير عن استنكاره للنماذج الأسرية المشوهة التي ظهرت في الدراما، حيث صُوّرت الأسر المصرية في حالة من التفكك والصراع، وبرزت صورة الزوجة المتسلطة والطامعة، كما في مسلسلات "عقبال عندكم"، "شهادة معاملة أطفال"، "الشرنقة"، "أم أربعة وأربعين".
كما روجت بعض الأعمال لفكرة الزواج من رجل مسن بدافع المال، ومعاملة الأهل بقسوة وسوء، كما في "أهل الخطايا"، "إش إش"، و"جريمة منتصف الليل".
وأشار التقرير كذلك إلى إبراز العداء بين الإخوة وتحويل العلاقة بينهم إلى علاقة مادية بحتة، كما ظهر في "شهادة معاملة أطفال"، "سيد الناس"، "أهل الخطايا"، و"فهد البطل".
واختتم التقرير رفضه الكامل لمشاهد العنف اللفظي والمعنوي والسبّ والتعامل غير اللائق، والتي تكررت في أعمال عديدة منها "إش إش"، "الأميرة ظل حيطة"، "تقابل حبيب"، "فهد البطل"،" قلبي ومفتاحه"، "80 باكو"، "سيد الناس"، "جوما"، "إخواتي"، و"أثينا"، وجميعها من إنتاج عام 2025 [1].
وفي ظل هذا الانتشار الواسع للمشاهد اللا أخلاقية في الدراما المصرية، طالبت النائبة مي أسامة رشدي، عضو مجلس النواب الموالي للنظام،
بوقفة جادة للحفاظ على قيم المجتمع المصري، مع احترام حرية الإبداع، داعية إلى تشكيل لجنة متخصصة للفصل في الأعمال التي لا تتناسب مع طبيعة المجتمع المصري[2].
تغييب الرموز الدينية
ومن أبرز مظاهر انحراف الدراما المصرية تغييب الرموز الدينية والنماذج الإيجابية، مقابل الترويج لشخصيات سطحية ومنحرفة، وتشويه حقائق التاريخ الإسلامي.
فبعد أن كانت المسلسلات والبرامج الدينية تحتل مكانة مميزة في وجدان الجمهور، خصوصًا في شهر رمضان، تراجعت هذه الأعمال إلى حد الغياب شبه التام، لتحل محلها الدراما الهدامة التي تغرس مفاهيم مادية وسلوكيات بعيدة عن روح الهوية المصرية والإسلامية التي شكّلت لعقود وجدان المشاهد المصري[3].
وامتدت يد التحريف كذلك إلى الدراما التاريخية الإسلامية، حيث شهدت السنوات الخمس الأخيرة إنتاج ثلاثة أعمال مثيرة للجدل هي: "ممالك النار"، و"الحشاشين"، و"معاوية"، وجميعها أسهمت في تشويه صورة التاريخ الإسلامي، وإظهار القوى الإسلامية وكأنها حركات إرهابية لا تلتزم بتعاليم الدين الصحيح.
فمسلسل "ممالك النار"، الذي عرض على قناة MBC عام 2019، واجه انتقادات واسعة من النقاد والإعلاميين لتقديمه صورة مشوهة عن الخلافة العثمانية، إذ اعتُبر العمل محاولة لتأليب الرأي العام ضد الإرث العثماني الإسلامي.
وقد رأت قناة TRT العربية أن المسلسل "يهدف إلى تزييف التاريخ لتشويه الدولة العثمانية"، معتبرةً إياه جزءًا من توجه سياسي أوسع يستهدف مهاجمة تركيا والإسلام السياسي[4] .
أما مسلسل "الحشاشين"، الذي أنتجته شركة "المتحدة"، فقد أُنفقت عليه عشرات الملايين من الجنيهات، وواجه اتهامات بتزوير التاريخ وتقديمه بلهجة عامية لا تنسجم مع روح الحقبة الزمنية التي يتناولها.
وسعى العمل إلى الربط بين "طائفة الحشاشين" التاريخية وجماعة الإخوان المسلمين في إسقاط سياسي واضح، يعكس توظيف الدراما لخدمة رسائل أمنية وأيديولوجية بعيدة عن الحقيقة التاريخية.
كما وُجّهت إليه انتقادات بسبب اعتماده على رواية "سمرقند" لأمين معلوف كمصدر غير موثق للأحداث، ما أبرز طغيان البعد التسييسي على القيمة الفنية والتاريخية للمسلسل[5].
أيضا أثار مسلسل "معاوية"، الذي عرضته قناة MBC في رمضان عام 2025، موجة واسعة من الاستياء لما احتواه من أخطاء تاريخية وتشويه متعمد لصورة الصحابة الكرام، إذ صوّرهم العمل وكأنهم يتصارعون على السلطة والنفوذ، متجاهلًا مكانتهم الدينية والتاريخية الرفيعة.
وقد أصدر الأزهر الشريف بيانًا رسميًا أعرب فيه عن رفضه لتجسيد شخصيات الصحابة، مؤكدًا أن ذلك يتعارض مع ثوابت العقيدة الإسلامية ويخلّ بقدسية الرموز الدينية التي يجب صونها عن التناول الدرامي أو التحريف الفني[6].
أسباب انحراف الدراما
أولاً: وجود توجه سياسي واضح يدعم تغييب القيم الأصيلة للمجتمع المصري لصالح قيم دخيلة ومنحرفة، في إطار سعي ممنهج لإحكام السيطرة على وعي الجمهور وتوجيهه بما يخدم السلطة.
ثانيًا: غياب الرقابة الفنية الجادة على الأعمال التي تروّج للعنف والعري والانحلال الأخلاقي، واقتصار الرقابة القائمة على الجوانب السياسية والأمنية دون اهتمام بالرسالة التربوية أو القيمية.
ثالثًا: تغليب البعد التجاري والبحث عن نسب المشاهدة والأرباح على حساب القيمة الفنية والرسالة الاجتماعية، خاصة مع هيمنة شركة "المتحدة" المملوكة للأجهزة الأمنية على سوق الإنتاج الدرامي.
رابعًا: ضعف النصوص الدرامية واستبعاد الكتّاب أصحاب الرؤية الأخلاقية والاجتماعية، وفتح المجال أمام مؤلفين يعبثون بالتاريخ ويشوهون الرموز الإسلامية لخدمة أجندات سياسية محددة.
خامسًا: تراجع الإنتاج الفني الخاص الذي كان يقدم أعمالًا راقية ومتنوعة، نتيجة عدم قدرته على منافسة الإنتاج المدعوم حكوميًا والموجّه سياسيًا.
سادسًا: صعود ظاهرة "النجم البلطجي" في الدراما، ممثلة في نجوم مثل محمد رمضان وأحمد العوضي وأحمد السقا وغيرهم، ممن رسخوا ثقافة القوة والعنف على حساب القيم الإنسانية والاجتماعية.
سابعًا: ابتعاد الدراما عن الواقع المصري ومشكلاته الحقيقية، خصوصًا الاقتصادية والاجتماعية، بسبب تدخل الدولة المباشر في توجيه المحتوى والإنتاج بما يتماشى مع خطابها الرسمي ويغيب نبض الشارع وهموم المواطن.
الانعكاسات الاجتماعية للانحراف
نتيجة انحراف الدراما المصرية عن مسارها خلال العقد الماضي، شهد المجتمع تصاعدًا غير مسبوق في مظاهر البلطجة والعنف، وانتشارًا ملحوظًا لتعاطي المخدرات، إلى جانب تراجع القيم الدينية وتنامي ظاهرة العري، خصوصًا في أوساط الطبقات الثرية التي أصبحت أكثر تأثرًا بالنماذج السطحية التي تروجها بعض الأعمال الفنية.
وفي هذا السياق، كشفت دراسة بعنوان «أثر الدراما التليفزيونية المصرية على انتشار معدلات العنف السلوكي والجريمة بين الشباب في المجتمع المصري»، نُشرت في مجلة الرأي العام، أن العديد من مظاهر العنف السلوكي وارتفاع معدلات الجريمة في المجتمع المصري تصاعدت خلال السنوات الأخيرة، بفعل التأثير السلبي للفن الهابط على سلوكيات المجتمع عامة، والشباب بوجه خاص.
وقد أجرت الدراسة استطلاعًا ميدانيًا شمل 120 شابًا من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، بهدف تحديد أكثر الأعمال الدرامية التي ركزت على مشاهد الجريمة والعنف خلال عام 2021، وقياس مدى تأثيرها على انتشار هذه السلوكيات في الواقع.
وأظهرت النتائج أن ارتفاع معدلات العنف والجريمة والانحراف الأخلاقي في الدراما ترك أثرًا بالغ الخطورة على عملية التنشئة الاجتماعية وعلى البيئة القيمية المحيطة بالشباب، مما انعكس على سلوك الشخصية المصرية بوجه عام.
وحذّرت الدراسة من أن استمرار هذه المعالجات الدرامية المنحرفة سيقود إلى تصاعد أخطر في ظواهر البلطجة والعنف وتعاطي المخدرات، إذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة للحد من هذا التدهور القيمي[7].
وأكد تقرير لموقع «بي بي سي» بعنوان «هل تلعب الدراما في مصر دورًا في تصاعد جرائم العنف في المجتمع؟»، نُشر في وقت سابق، أن الدراما المصرية أصبحت عاملًا مباشرًا في تفشي جرائم القتل البشعة التي شهدتها البلاد مؤخرًا، والتي اتسمت بدرجات غير مسبوقة من العنف والوحشية، على نحو لم يكن مألوفًا.
وأوضح التقرير أن نسبة مشاهد العنف في الأعمال الدرامية والسينمائية تزايدت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يثير تساؤلات حول مسؤولية صنّاع تلك الأعمال وأبطالها عن تصاعد مظاهر العنف في الواقع.
وأشار التقرير إلى أن عددًا من نجوم التمثيل في مصر باتوا يعتمدون على مشاهد العنف والدم كوسيلة سريعة لتحقيق الشهرة، بغضّ النظر عن قيمتها الفنية أو علاقتها بالحبكة الدرامية، إذ تُستخدم هذه المشاهد أحيانًا بصورة مقحمة لإثارة الجدل وجذب الانتباه الجماهيري.
كما نقل التقرير آراء عدد من أساتذة علم الاجتماع الذين أكدوا أن للدراما دورًا كبيرًا ومباشرًا في تشكيل السلوك الجمعي للمجتمع، وشددوا على ضرورة ضبط أداء الدراما المصرية وإخضاعها لمعايير تربوية وأخلاقية واضحة، قبل أن يتوغّل العنف والبلطجة في سلوكيات الأجيال الجديدة، ويتحول الفن إلى أداة لهدم القيم بدلًا من بنائها[8].
تصاعد جرائم العنف العائلي
ومن أبرز الآثار السلبية لانحراف الدراما المصرية تصاعد جرائم العنف العائلي خلال السنوات الأخيرة، حيث شهد المجتمع حوادث مروعة تعكس انحدارًا خطيرًا في منظومة القيم الأسرية، فقد أقدم أب في يونيو 2025 على إطلاق النار على زوجته وطفليه على الطريق الدائري بالقاهرة في جريمة صدمت الرأي العام، فيما شهدت محافظة قنا واقعة مؤلمة حين طعن أب نجليه وشقيقه بسكين إثر خلافات عائلية، كما قتلت سيدة أبناءها الثلاثة خنقًا في ضاحية الشروق، وهي الجريمة التي أثارت موجة من الغضب بعد اعتراف الأم بأنها أقدمت على فعلتها خوفًا على مستقبل أبنائها وتحت وطأة ضائقة مالية خانقة، متأثرةً بالأوضاع الاقتصادية الصعبة وبالدراما السلبية التي تروّج للجريمة كخيار للهروب من الواقع.
ووفق تقرير حقوقي صادر عن مؤسسة «إدراك للتنمية والمساواة»، تم توثيق 1195 جريمة عنف ضد الفتيات والنساء خلال عام 2024، تصدّرتها جرائم القتل بعدد 363 واقعة، من بينها 261 جريمة ناتجة عن عنف أسري، في حين شكّلت جرائم الطعن 23.1% من إجمالي الجرائم الموثقة، ما يعكس حجم الخلل القيمي وتزايد التطبيع مع العنف في الحياة اليومية.
ومن أبشع الجرائم التي شهدتها مصر مؤخرًا ما وقع في محافظة الإسماعيلية، حين أقدم مراهق لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره على قتل زميله في المدرسة، ثم قطع جثمانه إلى أشلاء باستخدام منشار كهربائي، في جريمة مروعة تبيّن لاحقًا أنها محاكاة لمشهد تلفزيوني شاهده في أحد المسلسلات الدرامية، ما يؤكد حجم التأثير الكارثي للدراما المنحرفة على عقول النشء وسلوكهم.
كما برزت ظاهرة الاغتصاب كأحد أخطر الآثار السلبية لانحراف الدراما المصرية، التي باتت تروّج لمشاهد العري والإغراء الجنسي تحت ذريعة "الواقعية"، ما يغذي الغرائز ويدفع بعض الشباب إلى ارتكاب جرائم جنسية في ظل العجز المادي عن الزواج وغياب الوازع الأخلاقي والديني.
وأشارت دراسات صادرة عن المركز القومي للبحوث الجنائية، بالتعاون مع عدد من المراكز الحقوقية، إلى أن ظاهرة الاغتصاب، ولا سيما اغتصاب الأطفال، أصبحت تبرز بشكل مقلق وغريب على المجتمع المصري، حيث تُسجّل سنويًا نحو 20 ألف حالة تحرش واغتصاب، تبلغ نسبة الأطفال بين ضحاياها نحو 85%، فيما تمثل حالات الاغتصاب الكامل 45% من إجمالي الجرائم الموثقة.
كما كشفت الدراسات أن معظم الضحايا يُجبرون على الصمت خوفًا من الفضيحة أو الانتقام، وأن 20% منهم يتعرضون للقتل بعد الجريمة لإخفاء معالمها، في حين أن 85% من الجناة ينتمون إلى الدوائر القريبة من الطفل، سواء من الأقارب أو الجيران أو المعارف، وهو ما يعكس انهيارًا خطيرًا في منظومة القيم وضبط السلوك الاجتماعي، ساهمت الدراما المنفلتة بدورٍ كبير في تغذيته وتطبيعه داخل الوعي الجمعي[9] .
وفي السياق ذاته، رصد تقرير صادر عن مركز التنمية والدعم والإعلام «دام» حول مستويات العنف في فبراير 2025، وقوع 139 حالة عنف متنوع خلال الشهر، من بينها 35 جريمة قتل و16 محاولة فاشلة، إضافة إلى 17 حالة عنف ضد الذات.
ولاحظ التقرير ارتفاعًا مقلقًا في معدلات العنف داخل الأسرة المصرية، خصوصًا بين الأزواج، مشيرًا إلى أن هذا النوع من العنف بات يأخذ أشكالًا أكثر قسوة وتكرارًا، في ظل تأثير المحتوى الدرامي الذي يروّج للصراعات الزوجية ويُظهر العنف الأسري وكأنه سلوك طبيعي أو مبرر[10] .
انتشار الإدمان وتعاطي المخدرات
كما شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في ظاهرة تعاطي المخدرات بين فئات متعددة من الشباب، لتتحول إلى أزمة اجتماعية تهدد بنية المجتمع الأخلاقية والنفسية.
وأكد تقرير صادر عن صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي التابع لمجلس الوزراء المصري تفشي ظاهرة الإدمان بصورة غير مسبوقة، ولا سيما بين النساء، وهي ظاهرة لم تكن شائعة في السابق وتشير إلى تحوّل خطير في أنماط السلوك داخل المجتمع.
وأظهرت الإحصاءات الرسمية أن نسبة إدمان النساء للمخدرات ارتفعت بنسبة 25% مقارنة بآخر إحصاء أجري عام 2017، حيث بلغت آنذاك نسبة المدمنات نحو 28% من إجمالي عدد المدمنين في مصر.
كما كشفت تقارير حديثة أن عددًا متزايدًا من السيدات لجأن مؤخرًا إلى تعاطي مخدر "الشابو" أو "الآيس"، المعروف شعبيًا باسم "المادة"، وهو من أخطر أنواع المخدرات الصناعية التي تُسبب تدميرًا سريعًا للجهاز العصبي وتدفع إلى سلوك عدواني وانفصام نفسي.
ويحذر خبراء من أن الترويج غير المباشر لتعاطي المخدرات في بعض الأعمال الدرامية، من خلال تصويره كوسيلة للهروب أو الترف، ساهم في تطبيع هذه الظاهرة وتخفيف حساسيتها في الوعي الجمعي، خصوصًا لدى الفتيات والمراهقين[11] .
وكشف الدكتور عمرو عثمان، مدير صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي، أن نسبة المدمنين على المواد التخليقية ارتفعت بشكل مقلق من 8% عام 2020 إلى 21% عام 2024، وتشمل هذه المواد الخطيرة أنواعًا مثل «الشابو» و«الاستروكس» و«الفودو».
وأوضح أن مصر شهدت عبر العقود موجات متعاقبة من أنواع المخدرات، إلا أن العقد الحالي يتميز بانتشار واسع للمخدرات الاصطناعية التي تُعد الأخطر على الإطلاق، نظرًا لتأثيرها السريع والمدمر على الجهاز العصبي والعقلي.
وأشار عثمان إلى أن نحو 25% من الشباب المصري أصبحوا فريسة للإدمان بأشكاله المختلفة، وأن حب الاستطلاع يمثل سبب التعاطي لدى نحو 57% من الحالات، فيما يستقبل الصندوق سنويًا قرابة 170 ألف مريض، بينهم ما بين 4 و5% من الفتيات، وهي نسبة وصفها بأنها مقلقة للغاية.
كما أظهرت الإحصاءات انخفاض سنّ التعاطي ليصبح بين 15 و25 عامًا، حيث تشكل هذه الفئة 44% من إجمالي المتعاطين، نصفهم يتعاطى الحشيش، وأغلبهم من طلاب التعليم الفني أو العاملين في المهن الحرفية بنسبة تصل إلى 33%.
وأشار كذلك إلى أن 56% من المسجلين في الصندوق فقدوا وظائفهم أو أصبحوا غير قادرين على العمل بسبب الإدمان، مؤكدا أن الدراما لعبت دورًا محوريًا في تفاقم ظاهرة تعاطي المخدرات، مستدلًا بنتائج المرصد الإعلامي للصندوق حول تحليل تناول مشكلة التدخين والمخدرات في الدراما الرمضانية لعام 2025.
وأظهر التقرير أن أبرز أنواع التدخين التي ظهرت في الأعمال كانت السجائر بنسبة 80%، تليها الشيشة (10%)، ثم السيجار (7%)، والتدخين الإلكتروني (3%)، مع ملاحظة أن بعض المشاهد جمعت أكثر من نوع. كما سجلت الدراما في عام 2025 ارتفاعًا في معدلات التدخين إلى 3.5% مقارنة بـ2.4% في العام السابق، وارتفاعًا في معدلات التعاطي إلى 1.1% مقارنة بـ0.4% عام 2024.
وأشار التقرير إلى أن تاجر المخدرات ظهر في كثير من الأعمال الدرامية كشخصية جذابة ومحبوبة، بينما عُرضت الكحوليات والمخدرات كسلوكيات عادية مقبولة اجتماعيًا، في حين تراجعت الأعمال التي تُبرز آثار الإدمان المدمرة على الأسرة والمجتمع.
وبلغت نسبة مشاهد تعاطي الكحوليات نحو 80% من إجمالي مشاهد التعاطي، في حين وصلت نسبة تدخين الإناث في الدراما إلى 12%، رغم أن النسبة الواقعية لا تتجاوز 1.5%، كما رُوّج لأنماط التدخين الحديثة مثل التدخين الإلكتروني والتبخير والتسخين.
أما أنواع المخدرات التي ظهرت في الدراما خلال عام 2025 فشملت الكحوليات (80%)، الحشيش (20%)، الهيروين (3%)، والأدوية المخدرة (2%).
واستعرض عثمان مجموعة من المعتقدات الخاطئة التي روّجت لها الدراما حول تعاطي المخدرات، أبرزها اعتباره سلوكًا اعتياديًا (88%)، أو وسيلة لنسيان الهموم (27%)، أو باعثًا على خفة الظل (4%)، أو مسكنًا للألم (3%)، أو مساعدًا على التركيز (2%).
وأكد في ختام حديثه أن هذه الرسائل المضللة تكرّس تطبيع الإدمان في وعي الشباب، وتحوّل الدراما من وسيلة توعية وإصلاح إلى أداة تهدم القيم وتنشر ثقافة الانفلات والانحراف في المجتمع المصري[12] .
كيفية تصحيح المسار المنحرف
يتضح مما سبق أن الفن المصري عمومًا، والدراما بوجه خاص، قد انحرفا عن مسارهما القويم، وتحولا من أدوات لبناء الوعي ونشر القيم إلى معاول لهدم الثوابت وتقويض استقرار المجتمع المصري.
ولتصحيح هذا المسار واستعادة الدور التنويري للفن، لا بد من اتخاذ خطوات جادة وشاملة، من أبرزها:
- تشديد الرقابة والمساءلة على المحتوى الدرامي الذي يروّج للعنف أو الانحلال أو يسيء إلى قيم المجتمع واستقراره، مع فرض ضوابط مهنية واضحة على الإنتاج الفني.
- إنهاء احتكار الإنتاج الدرامي من قبل جهة واحدة، وفتح المجال أمام شركات الإنتاج المستقلة والجادة لتقديم أعمال تحمل رسائل تربوية وإنسانية تعزز القيم الإيجابية وتنمي الوعي العام.
- دعم الدولة للأعمال الهادفة التي تبرز الهوية المصرية وتُعلي من شأن القيم الأخلاقية والاجتماعية.
- تشجيع الكتّاب والمخرجين على تناول القضايا الواقعية التي تمس حياة المواطنين، في إطار درامي يعكس هموم المجتمع ويطرح حلولًا إيجابية.
- تفعيل دور الأزهر الشريف ووزارة الثقافة في مراجعة الأعمال الدرامية ومتابعة مضامينها قبل عرضها، لضمان توافقها مع القيم الدينية والوطنية.
- نشر الوعي النقدي لدى الجمهور لتمكين المشاهد من التمييز بين الفن الهادف والفن الهابط، وتشجيعه على رفض المحتوى الذي يهدم القيم ويشوّه الوعي.
- تأكيد دور الفن في الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة، إذ يُعد وسيلة فاعلة لنقل القيم والتقاليد من جيل إلى جيل، وتعزيز الانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية.
- إبراز البعد التعليمي والتثقيفي للفن والدراما، وجعلها جسرًا للتواصل بين الثقافات المختلفة، تعكس روح المجتمع المصري وتنقل صورته الحضارية إلى العالم.
- تعزيز التفكير النقدي والتحليل عبر الدراما، بحيث تصبح وسيلة لتشخيص المشكلات الواقعية التي يعيشها المجتمع وتقديم رؤى بنّاءة لمعالجتها بدلًا من تزييفها أو تجاهلها[13].
إن إصلاح الدراما المصرية لم يعد ترفًا ثقافيًا أو مطلبًا نخبويًا، بل أصبح ضرورة وطنية لحماية الوعي الجمعي وصون هوية المجتمع المصري المتجذّرة في قيمه الدينية والأخلاقية. فالفن الراقي لا يهدم القيم، بل يبنيها، ولا يُفسد الوعي، بل يُنيره، لأنه انعكاس لضمير الأمة ومرآة حضارتها.
إن الدراما ليست مجرد وسيلة للترفيه أو التسلية، بل هي منبر ثقافي وتربوي يؤثر بعمق في فكر المجتمع وسلوك أفراده، ويُسهم في تشكيل وعي الأجيال وتوجيههم نحو القيم الإنسانية الرفيعة. لذلك، فإن إعادة الاعتبار للدراما الهادفة باتت واجبًا وطنيًا وثقافيًا، لضمان مستقبل ينهض فيه الفن برسالة نبيلة تجمع بين الإبداع والمسؤولية، وتسهم في ترسيخ القيم الدينية والمجتمعية التي تُشكّل جوهر الهوية المصرية وحضارتها العريقة[14].
وهذا التأثير الخطير للإعلام والفن على وعي الشباب يستدعي تحركًا جادًا من مؤسسات الدولة كافة، لوضع تشريعات صارمة تجرّم تمجيد البلطجة والعنف، وتشدد العقوبات على من يروّج لهذه المظاهر التي تهدد السلام الاجتماعي وتشوّه الهوية الثقافية للمجتمع المصري[15].
المصادر:
[1] "ترويج أنماط سلوك دخيلة على المجتمع المصري" ، أخبار اليوم ، 20 مارس 2025، https://linksshortcut.com/SsOMZ
[2] «"حظر مشاهد العري والتدخين والعنف».. مقترح برلماني بشأن مسلسلات رمضان 2025" ، المصري اليوم ، 24فبراير 2025 ، https://linksshortcut.com/YKuuY
[3] "دراما مصرية لاتعزز القيم الدينية " ، الوطن ، 28 مارس 2023 ، https://linksshortcut.com/wHrEd
[4] "بعد مهاجمته العثمانيين.. “ممالك النار” ينال انتقادات واسعة في تركيا" ، عنب بلدي، 19 نوفمبر 2019، https://linksshortcut.com/gmzAd
[5] سعيد السني ، "الحشّاشين" ،الجزيرة ن 27 مارس 2024 ، https://linksshortcut.com/CCgEu
[6] "دراما معاوية.. حين يتنازع التاريخ مع المتخيل.. من يُشكّل وعينا؟" ، عربي 21، 12 أبريل 2025، https://linksshortcut.com/jTSOi
[7] د. بسمة بهاء، "أثر الدراما التليفزيونية المصرية على إنتشار معدلات العنف السلوكي والجريمة بين الشباب في المجتمع المصري" ، مجلة الرأى العام، 10 اكتوبر 2022 ، https://goo.su/4QPIc
[8] "هل تلعب الدراما في مصر دورا في تصاعد جرائم العنف في المجتمع أم أنها تنقل الواقع؟" ، بي بي سى ، 15 يوليو 2022 ، https://linksshortcut.com/YNorB
[9] " الاغتصاب في أرقام" ، الوطن، 09 يونيو 2015، https://www.elwatannews.com/news/details/747220
[10] " العنف في فبراير.. ارتفاع معدلات “الدموية”" ، مصر 360، 4 مارس 2025، https://linksshortcut.com/kLMQp
[11] "تفشي ظاهرة الإدمان على المخدرات في مصر والنساء تشكلن النسبة الأكبر" ، مونت كارلو الدولية، 17مارس2025 ، https://linksshortcut.com/WklpB
[12] "مدير صندوق مكافحة الإدمان: نستقبل 170 ألف مدمن سنويًا "، المصري اليوم ، 22مايو 2025، https://linksshortcut.com/XiVdr
[13] "دور الفن في ترسيخ المبادئ والقيم" ، موسوعة أزوان ، 5 نوفمبر 2024، https://linksshortcut.com/AsweC
[14] " الدراما منتج قادر على إحداث تغيير في المجتمع والارتقاء به ثقافياً ومعرفياً وتربوياً وفنياً" ، صحيفة الوطن ،26أغسطس2019، https://alwatan.sy/archives/209707
[15] محمود العربي ، "نتشار البلطجة في المجتمع بين غياب الردع وتقليد النماذج السلبية" ، بوابة الاقتصاد، 12 مايو2025 ، https://linksshortcut.com/kyIKW
