"بى بى سى" في دائرة الاتهام: تاجرت بدماء صحفيي غزة وتواطأت مع الاحتلال
السبت - 12 يوليو 2025
إنسان للإعلام- تقرير:
منذ اندلاع العدوان الأخير على قطاع غزة، تصاعدت الاتهامات ضد عدد من المؤسسات الإعلامية الغربية بتبني سردية "إسرائيلية" منحازة، والتغطية على جرائم الحرب بحق المدنيين.
إلا أن ما يثير الصدمة أن بعض هذه المؤسسات لم تكتفِ بالدور الدعائي، بل تورّطت في ممارسات تمس جوهر أخلاقيات العمل الصحفي، وفي مقدمتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي وُجهت لها اتهامات خطيرة باستغلال صحفيين فلسطينيين ميدانيين في غزة، دون توفير الحد الأدنى من الحماية أو الحقوق القانونية، وسط صمت مؤسسي يرقى إلى التواطؤ.
لم تكتفِ شبكة "بي بي سي" بإنتهاج سياسة تحريرية داعمة للاحتلال الصهيوني والإبادة الجماعية في غزة، من خلال نشر أخبار كاذبة لتبرير ما يفعله الاحتلال، بل مارست أبشع أساليب الاستغلال ضد الصحفيين والمراسلين الذين كلفتهم بتغطية الحرب، فقتل وأصيب منهم العشرات، وحين جاء وقت الحساب، تنكّرت لهم بادعاءات أنها لم توقّع معهم عقودًا رسمية، وبالتالي فهي غير مسؤولة عن دفع مستحقات أو تعويض عن إصابات أو استشهاد!
حكاية ولاء أبو جامع
أكد العديد من الصحفيين والمراسلين في غزة أنه بعد نحو ثلاثة أشهر من بدء الإبادة في قطاع غزة، تواصل أحد العاملين في هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (BBC) مع صحفيين، وطلب منهم التعاون من خلال إجراء تسجيلات صوتية ومقابلات ومناشدات يومية، ومن بينهم الصحفية الفلسطينية ولاء أبو جامع.
وقد صوّرت الصحفية، التي تقيم في شرق خانيونس جنوب قطاع غزة، للشبكة أيضًا مواد تلفزيونية، حتى وصل عدد ما قدمته من مواد إلى (150) قطعة صحفية، دون وضوح حول سعر القطعة أو توقيع عقود.
لم تكن "أبو جامع" تملك حسابًا بنكيًا، ولذلك كانت ترسل المطالبة المالية مرفقة برقم حساب والدها الذي فوّضته لاستقبال الحوالة، وفي الوقت نفسه لم تكن قادرة على التأكد من وصولها بسبب عطل في التطبيق البنكي الذي يخولها الدخول إلى الحساب ومتابعة الرصيد.
قالت: "بعد تراجع جيش الاحتلال في خانيونس، تواصلت مع البنك وفتحت التطبيق لأول مرة في أكتوبر 2024م، وحينها صُعقت عندما اكتشفت أنه لا توجد أي حوالة م (BBC)"، مشيرة إلى أنها لم تشك لحظة في أن عملية التحويل كانت سارية بعد كل قطعة.
وكشف صحفيون آخرون متعاونون مع (BBC) أن الأمر نفسه حدث معهم، وتم النصب عليهم، رغم أنهم اضطروا للعمل في ظل ظروفٍ بالغة التعقيد، من قصف واجتياحات متكررة، وتحت إطار مخاطرة كبيرة في التنقل للوصول إلى مناطق التغطية ونقاط الإنترنت الجيدة.
متعاون بشكل غير رسمي!
يقول نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة، تحسين الأسطل: إن (BBC) تعاملت مع عدد كبير من الصحفيين في غزة تحت بند "متعاون"، وقد تقدم عدد منهم بشكوى ضدها للنقابة.
وأشار الأسطل إلى أن النقابة تواصلت بدورها مع (BBC)، وكان ردها أنها لن "تأكل حقهم"، وأن المسألة تتعلق بالبنوك، وأن بعض الصحفيين لا يملكون حسابات بنكية، وهناك مشاكل فنية.
وتابع: "النقابة أبلغت الصحفيين استعدادها للمساعدة في فتح حسابات بنكية لكل من لا يملك حسابًا"، محمّلاً (BBC) الجزء الأكبر من المسؤولية، كونها لم تعقد اتفاقات واضحة مع الصحفيين، ولم تحدد قيمة كل قطعة بشكل نصي قبل بدء العمل".
وقال: "اللوم على (BBC) كبير، فهي ليست مؤسسة مبتدئة، ولديها مستشار قانوني وهيئة تحرير ونظام وقانون تتبعه، وكان عليها مراعاة المخاطر الكبيرة التي يتعرض لها الصحفيون الذين قدموا لها خدماتهم في قطاع غزة تحديدًا، دونًا عن أي منطقة أخرى".
ليست مجرد مخالفات قانونية
ويرى محامي المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية "مدى"، فراس كراجة، أن ما بدر من (BBC) نحو بعض الصحفيين والصحفيات في قطاع غزة، يرتقي إلى المخالفة الجزائية، وليس مجرد مخالفة لقانون العمل.
قال: "استغلت مؤسسة (BBC) انهيار المنظومة الاقتصادية في قطاع غزة، وتعاقدت مع مجموعة كبيرة من الصحفيين/ات بنظام القطعة، بدلًا من تعيين موظفين ثابتين محددين برواتب واضحة وحقوق وتأمين على الحياة"، موضحًا أن هذا ترك لها مجالًا واسعًا للتهرب من الاستحقاقات، ووجوب توفير حماية وفق قانون العمل، لا سيما في ظروف الحرب.
ويرى كراجة أن (BBC) تهربت بهذه الطريقة من الكثير من الالتزامات كمؤسسة دولية، "ولم تتوقف هنا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما حجبت وأخّرت دفع مستحقات صحفيي/ات غزة، تحت ذريعة انهيار النظام المصرفي"
ويقول الإعلامي يسري فودة إن "بي بي سي" تخلّت عن مسؤوليتها تجاه العاملين بنظام "الفريلانسر" في الدول المصنّفة كمناطق خطرة، مثل تلك التي تشهد حروبًا أو ثورات أو نزاعات.
وأوضح أنها أنشأت منصات وسيطة بين المؤسسة والصحفيين أو المصورين، بحيث تُرفع عنها المسؤولية في حال تعرض أحد العاملين لأي ضرر.
وقد حدث ذلك بالفعل في مصر، حيث تم اعتقال أحد المصورين ومصادرة معداته، وعندما تواصل مع أحد ممثلي هذه المؤسسة الكبرى، جاء الرد: "أنت لا تعمل معنا بشكل مباشر، وقد قبلت تنفيذ هذا العمل على مسؤوليتك الشخصية، ومن خلال موقع وسيط"
وبعدها، تجاهل المدير الرد عليه، وضاعت حقوق المصور بالكامل، سواء المادية أو حتى المعنوية، مثل إثبات اسمه على الأعمال التي قدّمها.
قال فودة: "للأسف، أصبحت بعض المؤسسات الإعلامية تتعامل مع الصحفيين والمصورين بأسلوب يفتقر إلى المهنية، بل والأخلاق".
المساهمة لاتعني هضم الحقوق
وقال صحفيون وحقوقيون إنهم تلقّوا خلال الأيام القليلة الماضية رسائل كثيرة من زملاء داخل غزة يشكون من أن (BBC) لم تدفع أجورهم، بعد أن استوظفتهم لإمدادها بتقارير إخبارية و/أو مواد مصورة ولقاءات متناثرة.
أوضحوا أنه في عرف العمل الصحفي وظيفة توافقية تُسمى "مساهم" (Contributor)، وهي لا تختلف في جوهرها عن الوظائف الثابتة إلا في مستوى الالتزام القانوني الذي يمنحه كل طرف للآخر.
فالمساهم يمكن أن يرحل في أي وقت، والمؤسسة يمكن أن تتوقف عن التعامل معه في أي وقت، لكن هذا لا يعني انتفاء المسؤولية على الطرفين، وبكل تأكيد لا يعني هضم حقوق الناس.
ولا يتوقف الأمر عند مجرد المسؤولية الأخلاقية المهنية والشخصية، بل إنه صار معروفًا في الدول المحترمة والمؤسسات المحترمة أن هذه المسؤولية الأخلاقية تتحول إلى مسؤولية قانونية بعد مرور فترة زمنية معينة على هذه الوظيفة التوافقية.
وأشاروا إلى أنه في بداية حرب الإبادة، لم يبقَ في شمال قطاع غزة كله سوى صوت واحد يعمل كمتعاون (Contributor) لصالح قناة "الجزيرة"، هو أنس الشريف، لكن محمد معوض، رئيس تحرير "الجزيرة"، قرر توقيع عقد شامل معه بكامل الحقوق، وأصبح أنس رسميًا مراسل قناة "الجزيرة" في غزة.
وهذا الموقف لا يُقارن بموقف "بي بي سي" من بقية الصحفيين في غزة، حيث استغلتهم تحت القصف والقنص والتجويع اليومي، ولم تُعر اهتمامًا لفقدان حياتهم أو استشهادهم، بل شاركت الاحتلال في نهشهم، وغيّرت بعض الأخبار التي كانوا يرسلونها، كي تُنشر بصيغة تخدم الاحتلال!
تكشف هذه الشهادات المتطابقة عن نمط مقلق من الانتهاكات التي تتجاوز الاستغلال المالي لتصل إلى حد التواطؤ الإعلامي والأخلاقي مع آلة القتل "الإسرائيلية"، وهو ما يفرض على المؤسسات الحقوقية، والنقابات الصحفية، والمجتمع الدولي، مساءلة "بي بي سي" وغيرها من المؤسسات الكبرى التي تتعامل مع الصحفيين في مناطق النزاع باعتبارهم وقودًا للحرب لا شركاء في نقل الحقيقة.