صناعة الوهم: كيف تحولت أخبار "صفقة غزة" إلى سلاح نفسي؟
الجمعة - 25 يوليو 2025
حنان عطية
في زمن الحروب الهجينة، لم تعد ساحات القتال تقتصر على البر والبحر والجو، بل امتدت لتشمل عقول البشر وقلوبهم، حيث تحولت شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات معركة لا تقل شراسة عن جبهات القتال.
وفي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، برزت ظاهرة خطيرة تتمثل في استخدام أخبار "الصفقات الوشيكة" و"المفاوضات المتقدمة" كسلاح نفسي ممنهج، يهدف إلى تحقيق ما عجزت عنه القوة العسكرية، وهو كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتفكيك صموده الأسطوري.
آلية صناعة الوهم
ومن خلال مراقبة دقيقة للسياق الإعلامي المحيط بالعدوان على غزة، نكتشف نمطًا متكررًا ومحكمًا يحدد ملامح هذه الوصفة الجاهزة للتضليل، يظهر في عدد من السياقات التي تكشف كيف يتم تمرير هذه الظاهرة، والتي يمكن رصدها في:
1- التوقيت الاستراتيجي: حيث تتصاعد أنباء "الصفقات القريبة" كلما اشتد القصف على غزة، أو كلما واجهت إسرائيل ضغوطًا دولية متزايدة، وهذه ليست مصادفات، بل تكتيك مدروس لتحويل الأنظار عن الجرائم المستمرة.
2- الآلية الثلاثية: وتظهر في التصريحات الإعلامية المثيرة التي تصدر من طرف واحد (غالبًا ما يكون الكيان الصهيوني أو حلفاءه)، ثم تظهر في إطار تسريبات مزعومة من "مصادر عليمة" مجهولة، ثم تظهر أخيرًا في إطار إنكار غامض من الأطراف الأخرى.
3- الدور المريب لبعض وسائل الإعلام الدولية: والتي تتحول بوعي أو بدون وعي إلى مكبر صوت لهذه الأكاذيب تحت ذريعة "الحياد"، بينما تسهم في تطبيع الرواية الصهيونية.
الأهداف الخفية
وفي النهاية، يمكنك أن تكتشف أبعاد هذه المسرحية الإعلامية التي لا تهدف إلى التبشير بانتهاء الحرب حقيقة، ولكنها تسعى لخلق واقع نفسي جديد يدفع الفلسطينيين إلى:
- الشك في قياداتهم
- التساؤل عن جدوى الصمود
- تقبل الحلول الهزيلة باعتبارها "أفضل الموجود"
- تقديم صورة مزيفة للمجتمع الدولي تظهر المحتل كـ"ضحية" والمقاومة كـ"عقبة"
تشريح أجندة اللاعبين
ويمكننا الوقوف على الأجندة التي يصنعها كل لاعب رئيسي في الحدث الإعلامي الذي يتم صناعته بعناية والوصول إلى نهايته وفقًا لخطة مدروسة، والمثال الواضح هنا ما يفعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي يسعى للتحرك وفقًا لأجندة واضحة الملامح يستهدفها من خلال تصريحاته وخطابه الإعلامي، ومن بين هذه المستهدفات:
- تعزيز الصورة الذاتية: حيث يسعى ترامب إلى تقديم نفسه كـ"صانع سلام" عظيم، يريد أن يُذكر تاريخيًا بأنه الرئيس الأمريكي الذي "حل" الصراع الفلسطيني-الصهيوني.
- إلهاء الرأي العام: فكلما واجه ترامب أزمات داخلية، يلجأ إلى تصريحات مثيرة حول "صفقة القرن" أو "الاتفاق التاريخي" لتحويل الأنظار.
- خدمة المشروع الصهيوني: وذلك عبر تصوير المقاومة كعقبة أمام السلام، بينما يتم التغطية على الاستيطان المتواصل.
نتنياهو: ساحر الأكاذيب
أما نتنياهو، فهو يحمل أجندة خاصة في تصريحاته الإعلامية ومواقفه المعلنة، حيث يسعى إلى تحقيق مستهدفات سياسية من خطابه الإعلامي، ويتضح ذلك في عدد من المظاهر:
- كسب الوقت: حيث يتكلم عن المفاوضات الوهمية ويتعامل معها على أنها غطاء لمواصلة العدوان وتفكيك الوحدة الفلسطينية.
- الترويج الذاتي: حيث يحرص على تحسين صورته أمام العالم عبر إظهار "المرونة" في تصريحاته الإعلامية، بينما على أرض الواقع تستمر المجازر.
- تضليل الداخل الصهيوني: حيث يتم تصوير الحرب كضرورة لـ"تحرير الأسرى"، بينما الهدف الحقيقي هو سحق المقاومة.
أدوات التضليل الإعلامي
في هذه المعركة الإعلامية الطاحنة، يبذل الاحتلال جهودًا كبيرة في صناعة الأكاذيب وترويج الشائعات والمعلومات المزيفة، ويستعمل في إطار ذلك عددًا من الوسائل والآليات منها:
- التسريبات المزيفة: حيث يقوم بتقديم معلومات ناقصة أو مشوهة عن مسار المفاوضات.
- التواريخ الوهمية: ويقوم أيضًا بالتكهن بمواعيد غير واقعية للإعلان عن الهدن والاتفاقات، لتُكتشف فيما بعد عدم دقتها أو مصداقيتها.
- تضخيم الخلافات: حيث يتم صناعة روايات مكذوبة عن الطرف الفلسطيني، فيتم تصوير وجود خلافات داخلية فلسطينية، يمكنه من خلالها التأكيد على أنها السبب في "انهيار الموقف".
- تحويل التنازلات إلى حقائق: حيث يتم طرح وتقديم المطالب الصهيونية كمسلمات مقبولة لا تقبل النقاش أو التنازل.
الهدف الاستراتيجي
أما عن الأهداف الاستراتيجية التي تقف وراء استعمال أدوات وطرق التضليل الإعلامي، فيمكننا أن نرصد عددًا من هذه الأهداف منها:
- إضعاف الروح المعنوية: حيث يشكك الطرف الفلسطيني في جدوى المفاوضات، ويشرب شعورًا بعدم فاعلية الصمود وتأثيره، وبالتالي نشر حالة من الإحباط وتراجع معدل الثقة في سلامة الطريق الذي سارت فيه المقاومة للحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
- خلق الانقسام الداخلي: وبناءً على ما سبق، فإن حالة التشكيك تدفع قطاعًا من الفلسطينيين للضغط على قياداتهم لقبول شروط مهينة، وهو ما لاحظناه من بعض المقاطع التي يتم نشرها للمطالبة بإنهاء المعركة بأي شكل، دون الوضع في الاعتبار أن بقاء الاحتلال في غزة يعني استمرار المعاناة وعدم توقفها.
- كسب الوقت: وذلك من خلال تمكين الجيش الصهيوني من مواصلة عملياته العسكرية تحت وقع عمليات التخذيل والكذب الاستراتيجي، فتستمر عمليات القمع دون توقف.
خارطة طريق لمواجهة التضليل
والسؤال الآن: كيف نواجه آلة التضليل؟ وما هي الوسائل التي يجب استعمالها حتى نصل إلى حالة من الوعي النقدي في التعامل مع هذه الحملات الممنهجة؟ ونطرح هنا عددًا من الوسائل والأدوات لكشف حقيقة الرسائل المبطنة في إعلام المعركة، منها:
• التشكيك: حيث لا نتلقى أي خبر بلا تمحيص، ولا نصدق معلومة بلا دراسة، ولندرك أن أي خبر قد يكون الهدف منه خدمة أجندة الاحتلال أو المشاركة في حرب نفسية وتأثيرات معنوية تستهدف الفلسطينيين.
• مقارنة المصادر:
- وذلك من خلال الرجوع إلى المصادر الأصلية والرسمية.
- مقارنة الروايات المختلفة، ولذا يُفضل الاطلاع على الخبر من أكثر من مصدر حتى نتيقن مدى دقة الكلام وصحة الخبر.
- الاعتماد على وسائل إعلام محايدة نسبيًا أو التي تتسم بالطابع المهني، أو التي تبين دقة أخبارها في الغالب.
• ربط الخبر بالواقع الميداني: فالأرض لا تكذب، بينما الإعلام قد يحمل أجندات حمالة أوجه. فإذا كانت المفاوضات "متقدمة"، فلماذا يستمر القتل والتدمير؟
• الانتظار 24 ساعة: حيث إن كثيرًا من الأخبار "الحاسمة" تثبت كذبها أو صدقيتها بعد يوم واحد فقط، حينها ستتكشف الحقائق، ونستطيع أن نميز بين من اعتاد الكذب ومن اعتاد الصدق.
وأخيرًا، فإن التاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تعرف حقيقة أعدائها لا تنخدع بسراب "المفاوضات الوهمية"، فبعد كل الوعود الكاذبة، لم يحصل الفلسطينيون سوى على مزيد من الدمار، لكنهم أيضًا تعلموا أن الحقوق لا تُسترد بالأكاذيب الإعلامية، بل بالصمود والمقاومة.
كما أن الحرب لن تنتهي عندما تعلن القنوات الفضائية وكافة وسائل الإعلام توقفها، ولكن عندما يتوقف الرصاص.
وحتى ذلك اليوم، يبقى الوعي النقدي سلاحنا الأقوى، فكما قال محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة... تصرّفنا المستحيل لجعل المستحيل ممكنًا".
في النهاية، لننظر دومًا إلى الأرض قبل الشاشات، ولنصدق ما نراه بأعيننا، لا ما نسمعه بآذاننا.