الصحافيون المصريون محاصرون شعبياً بتهمة النفاق ورسميا بالشك في النوايا
الأحد - 29 آغسطس 2021
حتى وقت قريب كان العاملون في مجال الصحافة بمثابة قطة السلطة المدللة. وعلى مدار عقود كلما كشر الزمن لفئة، ظل أهل الصحافة من طائفة الناجين من نار السلطة المنعمين بحضنها ومزاياها.
ظل الحال هكذا من زمن عبد الناصر حتى عصر المخلوع مبارك، وحينما هبت رياح ثورة الخامس والعشرين من يناير استبشر العاملون في بلاط صاحبة الجلالة خيراً آملين في ان يحصدوا ثمار الثورة بصفتهم لعبوا دور البطولة في أحداثها.
محنة وجودية
ظل م.أ الذي تجاوز العقد السادس من عمره والذي يشغل منصب نائب رئيس تحرير في صحيفة يومية معارضة، يحمد الله على التميز الذي يحظى به وزملاؤه من العاملين بالمهنة ثم مالبث ان تغيرت الأحوال بحلول 30 يونيو 2013 ، حيث فقد الصحافيون إنجازاتهم البسيطة وفي مقدمتها استقلال الشاحنات العامة مجانا. عرفت المهنة تحولات عاتية ترقى لمستوى الإعصار حيث أخذت الصحف خاصة الورقية منها تواجه الفناء، بل ان العشرات من الصحف الخاصة والحزبية أغلقت أبوابها نتيجة الكساد الذي ضرب سوق الإعلانات والتي كانت تمثل رئة أساسية وشبه وحيدة تعين الصحف على الاستمرار في الصدور.
تواجه الصحافة المصرية، محنة وجودية هي الأشد وطأة على مدار تاريخها الذي بدأ قبل أكثر من 200 عام، إذ تراجعت أعداد توزيع الصحف مجتمعة إلى أقل من 60 ألف نسخة يوميا، بعد أن شهدت صعودا تاريخيا في عام 2011 عندما اقتربت وقتها من حاجز المليوني نسخة يوميا، منها 600 ألف تقريبا لصحيفة «المصري اليوم».
وبحسب مصادر إعلامية قبل ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، كان عدد «أهرام الجمعة» و»أخبار اليوم» يتجاوز النصف مليون نسخة، بل إن جريدة «أخبار الحوادث» الأسبوعية المتخصصة، كانت تحقق رقم الـ 400 ألف نسخة. ومنذ العام 2013 بدأ التراجع الكارثي في أرقام التوزيع التي مثلت صدمة لأهل المهنة وعشاقها.
غير ان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تقريره قبل الأخير أكد أن الصحف الورقية المصرية ما زالت قوية البنيان من حيث معدل التوزيع اليومي 1.4 مليون نسخة عام 2018.
كان ذلك بالتأكيد قبل إغلاق ثلاث صحف مسائية ورقية وهو القرار الذي أصاب الوسط الصحافي بالصدمة وان كان رحب به البعض.
وأوضح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في تقريره الذي أصدره أن عدد النسخ الموزعة للصحف العامة محلياً وخارجياً بلغ 547.2 مليون نسخة عام 2018 مقابل 510.2 مليون نسخة عام 2017 بزيادة 7.2 في المئة. وشدد الجهاز على أن عدد الصحف العامة التي صدرت 70 صحيفة عامة، منها 3 صحف حزبية عام 2018 مقابل 76 صحيفة عامة عام 2017 بتراجع نسبته 7.9 في المئة.
وانتهى الجهاز في تقريره إلى أن الصحف جزء مهم من المشهد الإخباري لكنها تضررت بشدة نظراً للاعتماد على الصحافة الرقمية، حيث أخذت أرقام التوزيع على مدار عامي 2019و2020 تنخفض إلى أن وصل توزيع بعض الصحف اليومية إلى أرقام متدنية للغاية حيث وقف توزيع إحدى الصحف عند 1600 نسخة بيما تقاتل صحيفة أخرى دون الألف نسخة ويبحث المشرفون عن عدة صحف وقف العدد الورقي بالفعل بسبب تراجع المبيعات وندرة الإعلانات.
تحت الرماد
قرار تحويل ثلاث صحف مسائية ورقية إلى إلكترونية أعاد للواجهة الحديث حول مستقبل الصحافة الورقية، في ضوء التحديات التي تواجهها، بدءا من ارتفاع تكاليف الإصدار مرورا بالمنافسة القوية مع الإصدارات الإلكترونية، وقوة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، ولعل القرار الذي أصدرته الهيئة الوطنية للصحافة بتحويل إصدارات «الأهرام المسائي» (الصادر عن مؤسسة الأهرام) و»الأخبار المسائي» (الصادر عن مؤسسة أخبار اليوم) و»المساء» (الصادرة عن مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر) إلى إصدارات إلكترونية قد جسد «المأزق الخطير» الذي تواجهه الصحافة الورقية عموما، ما كان عاملا لكشف ما تحت الرماد من عورات كثيرة ليعترف البعض بأن الصحافة الورقية في مرحلة الاحتضار، فقد كانت بالأمس رائدة تبدع وتبتكر وتنتج وتؤثر في الرأي العام المصري والعربي، واليوم صارت تصارع من أجل البقاء بسبب التطور التكنولوجي وارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة والأزمات الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تراجع أرقام التوزيع بصورة غير مسبوقة.
ورغم تلك الأزمات فإن إغلاق الإصدار الورقي لتلك الصحف العريقة من وجهة نظر فريق من الصحافيين أمر محزن وخسارة فادحة للصحافة المصرية والعربية. من بين من تنبأ بوصول المهنة وأهلها لتلك النكبة أستاذ الإعلام الدكتور ياسر عبد العزيز، والذي انتقد من قبل عبر تصريحات إعلامية وجود 8 مؤسسات قومية في مصر، وأنحى باللائمة على بعض الدول في امتلاك عدد من المؤسسات القومية سواء في مجال الصحافة أو التلفزيون، وأشار إلى أن هذه الدول لا يمكن بأي حال ان تصنف بين ضمن الدول المتقدمة أو الديمقراطية، وتابع: «لا توجد دول متقدمة تمتلك وسائل إعلام مطبوعة، ولكن هناك مرئية وإلكترونية، والمطبوع موجود في دول أنماط الحكم فيها على درجة من القمع والكبت، وهذا حدث في مصر قديما، ولكن الآن لا نحتاج لهذا الأمر والدولة ليست بحاجة لامتلاك 8 مؤسسات».
وعاد الخبير الإعلامي بالتاريخ لعقد مضى مشيراً إلى كتابه الصادر عام 2011 «ثورة 25 يناير: قراءة أولية وروح مستقبلية» حين طالب «المؤسسات بتركيز عملها على عدد إصدارات أقل، خاصة أنها تعمل بآليات تغيرت في العالم بأكمله، وهناك ما يقرب من 30 ألف عامل في مهن لم تعد موجودة ولسنا في حاجة إليها، مثل عمال الطباعة والموزعين وغيرها من المهن"
ستموت بأي حال
بشجاعة يحسد عليها اعترف الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز، بأن الصحف الورقية تمثل فترة انتهت من تاريخ الصحافة والإعلام على مستوى العالم، متابعاً بحسب تصريحات: «لا يمكن بناء استراتيجية محتوى إعلامي أو مؤسسة إعلامية على أساس الإصدارات الورقية فقط، بسبب التحول الكبير في طرق وآليات تلقي الجمهور للمحتوى الصحافي» وتلك نقطة مهمة لم ينتبه إليها كثيرون من قيادات الصحف القومية.
واصل عبد العزيز كاشفاً عن سبب الداء: «كثير من الزملاء عمد للبكاء على اللبن المسكوب، ونسج حالة من التراجيديا في أعقاب قرار الهيئة الوطنية للصحافة الأخير بشأن غلق ثلاث صحف مسائية ورقياً وهم في الواقع غافلون عن حقائق الواقع التي تقول أن 65 في المئة من أبناء الشعب المصري تقل أعمارهم عن الثلاثين، وهذا ما يشير إلى ضرورة التحول إلى الصحافة الإلكترونية حيث يتلقى هذا القطاع الكبير من الجمهور معلوماتهم وأخبارهم عبر شبكة الإنترنت من خلال المواقع الإلكترونية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يتطلب صرف الدفة إلى جهة أخرى بالتحول الرقمي حتى يمكن جذب شرائح كبيرة من السوق الذي يعاني حالة من الموات السريع وذلك إذا أردنا لمهنة الصحافة بصفة عامة أن تبقى تمارس دورها في التوعية والتثقيف وإمداد الناس بحاجتهم الإخبارية في ظل منافسة أخرى من جانب الفضائيات وغيرها من وسائل تسبق الصحف الورقية في عمليات بث الأخبار أولا بأول».
قرار متأخر
تمتلك مصر ثماني مؤسسات صحافية حكومية تمثل نصيب الأسد في عدد الإصدارات الورقية، إذ يبلغ عدد ما يصدر عنها قرابة خمسين إصداراً ورقياً جلها يعاني تراجعاً فادحاً في التوزيع بسبب التوجه نحو متابعة الإصدارات الإلكترونية كخيار شبه وحيد بالنسبة للكثير من القراء، خاصة فئات الشباب والأصغر سنا.
وعلى الرغم من القرار المؤلم بشأن إغلاق الصحف المسائية ورقياً بالنسبة للعاملين فيها الذين ينظرون للإصدارات الورقية باعتبارها عنوان النجاح، إلا ان القرار حظي برضا الكثيرين الذين يعتبرون التوقف الورقي بمثابة بتر لعضو «ميت» أصلاً لأجل ذلك مثل قرار الهيئة الوطنية للصحافة، الأخير، الخاص بحجب الصحف المسائية، وتحويلها إلى نسخ إلكترونية، تابعة للبوابات الخاصة بالمؤسسات الصادرة عنها، قرارا صائبا تأخر كثيرا، خصوصا أن كثيرا من هذه الصحف باتت تعاني منذ سنوات طويلة، هجر القراء، ما أسفر عن انهيار معدلات التوزيع بصورة تدعو للشفقة.
من جانبه وفي تصريحات سابقة اعترف أيمن عبدالمجيد عضو مجلس نقابة الصحافيين ورئيس تحرير بوابة «روز اليوسف» إن الصحافة أصبحت مهنة مَن لا مهنة له، مشددا على ضرورة التصدي بيقين واصرار لكل من لا يمت للمهنة بصلة.
تابع: «أن الجميع يبدي تخوفه من تراجع الصحف الورقية، لكن حينما ننظر لهذا الأمر لابد أن نستوضح هل الصحف الورقية تحتوي على تحليل أو تعميق لما يتم نشره أم ينشر في اليوم التالي كخبر عادي تم نشره قبلها بيوم كامل؟».
يكره الكتابة
خلال شهر شباط/فبراير من عام 2020 مع اكتشاف أول حالة إصابة بفيروس كورونا وضع الصحافيون أياديهم على صدورهم خوفاً على مهنتهم من التوقف التام إثر تقارير طبية تشير إلى أن الصحف الورقية تنقل الفيروس. إثر ذلك قررت الصحف بجانب مختلف المؤسسات الإعلامية تخفيض نسبة التواجد داخل المكاتب بهدف منع انتشار العدوى بالفيروس. في هذه الفترة بات كثير من الإعلاميين يعزون أنفسهم «الفيروس يكره الصحافة» وعلل هؤلاء الأمر بالتراجع المخيف في توزيع الصحف الورقية ومقاطعة الكثيرين لها مكتفين بمتابعة كتابهم وصحفهم المفضلة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الرقمية.
وبينما الحالة تزداد سوءا والأوضاع الاقتصادية بالنسبة لغالبية الصحافيين تشهد هزات عنيفة، بدت الحكومة أقرب ما تكون سعيدة بالمصيبة التي حلت على مهنة صاحبة الجلالة وأهلها. توالت الأيام وصدقت نبؤة الصحافيين إذ تصاعدت حالة التردي التي تشهدها الصحف كافة ولم يعد هناك تمايز بين صحيفة وأخرى وانتهى الأمر على النحو الذي لا يستطيع أن ينكره أحد من المنتسبين لبلاط صاحبة الجلالة.
كأنه بفعل فاعل جرى تشويه صورة الصحافي ليس في الواقع فقط بل كذلك عبر العديد من الأعمال الفنية سواء في السينما أو المسلسلات التلفزيونية حيث شهدت العقود الأخيرة من يرد دليلاً على تهاوي دور الصحافة ليس مطلوباً منه أن يتجاوز الخطوط الحمر وينتقد السلطة بل فقط التعرض لأي من نجوم السينما أو حتى أنصاف المواهب ليرى بذاته الهجوم الحاد الذي تتعرض له صاحبة الجلالة على يد أنصاف ممثلين وبعض الكومبارسات.
ولعل قضية الفنانة التي رحلت مؤخراُ بعد صراع مع الفيروس الفتاك دلال عبد العزيز مع الإعلام، خير شاهد على تهاوي المهنة، حيث انطلق الهجوم من كل صوب وحدب ضد عدد من الإعلاميين ومن اللافت ان كثيرا من معدي البرامج الذين يحملون عضوية نقابة الصحافيين ساهموا بالفعل في الحرب الضروس ضد صاحبة الجلالة والعاملين فيها.
وتبلغ المأساة ذروتها حينما يتحدث بلسان الصحافيين من ليس منهم بل ويمارسون أعمالا صحافية بدون ان يلتحقوا بعضوية النقابة، ومن المثير للأسى ان ما جرى من جرم في عزاء الممثلة الراحلة وعلى الرغم من اعتذار من شارك فيه ومن لم يشارك إلا ان الهجوم طال الجماعة الصحافية كلها.
المصدر القدس العربي