غرف الأخبار تحت السيطرة.. مأساة الصحافة المصرية في زمن القبضة الأمنية

السبت - 13 سبتمبر 2025

  • الخوف يدير غرف الأخبار في مصر والرقابة الأمنية تحولت إلى ممارسة منهجية و"مؤسسية"
  • بعد اعتقال أكثر من 300 صحفي منذ 2013 .. الرقابة الذاتية باتت راسخة في نفوس الصحفيين
  • من المعتاد وجود ضابط مخابرات داخل غرف الأخبار يتنقل بين الأقسام لإقرار ما يُنشر وما لاينشر!
  • تعيين رؤساء تحرير محدودي الكفاءة وذوي تاريخ "ملوّث أمنيا" لإدارة المشهد الإعلامي
  • تقارير ودراسات: مصر تعيش واقعًا أسوأ بمراحل من تأميم الصحافة في عهد "عبدالناصر" بسبب الرقابة
  • مصر تتراجع إلى المركز 170 من أصل 180 في مؤشر حرية الصحافة والجمهور يتجه للإعلام المعارض

 

"إنسان للإعلام"- فريق التحرير:

في الوقت الذي يرفع فيه عبد الفتاح السيسي شعارات "تطوير الصحافة والإعلام" ويبشّر عبر أبواقه الإعلامية بمرحلة انفتاح جديدة في الحريات، تكشف الوقائع داخل غرف الأخبار وصالات التحرير أن المشهد يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا. فالرقابة – سواء كانت مفروضة من الأجهزة الأمنية أو نابعة من خوف الصحفيين أنفسهم – باتت جزءًا راسخًا من بنية الإعلام المصري، تتحكم في أجندته وتحدد مساراته.

وعلى الرغم من الخطاب الرسمي الذي يبرر استمرار هذه القيود بضرورات "الحفاظ على الأمن القومي" و"مكافحة الشائعات" و"حماية الدولة"، يؤكد صحفيون ومراقبون أن النتيجة المباشرة لذلك هي تقليص هامش حرية التعبير، والإضرار بجودة المحتوى الإعلامي وتنوعه، وتحويل المؤسسات الصحفية والفضائيات إلى منصات أحادية الصوت.

هذا التقرير يرصد ممارسات الرقابة الأمنية والذاتية داخل غرف الأخبار، ويحلل انعكاسها على أداء وسائل الإعلام المختلفة، كما يتوقف عند موقع مصر في مؤشرات حرية الصحافة الدولية، ليوضح الفجوة المتزايدة بين الخطاب الرسمي والواقع العملي.

قبضة أمنية محكمة على غرف الأخبار

في مصر، لم تعد الرقابة الأمنية مجرد ممارسة طارئة، بل تحوّلت إلى سياسة ممنهجة ذات طابع مؤسسي، تُدار من خلال شبكة من الإجراءات والتدخلات الحكومية التي تضبط المشهد الإعلامي بأكمله.

تقارير صحفية، بينها تقرير لوكالة "رويترز"، أكدت أن جميع غرف الأخبار تخضع بشكل مباشر لرقابة الأجهزة السيادية، حيث يتولى ضباط من جهاز المخابرات العامة إدارة العمل داخل مدينة الإنتاج الإعلامي ومقار الصحف، ويشاركون في الاجتماعات التنفيذية، ويملكون الكلمة الفصل قبل بث أي برنامج، سواء كان سياسيًا أو ترفيهيًا، بل وصل الأمر – وفق الشهادات – إلى جلوسهم في غرف التحكم داخل الاستوديوهات، ومراجعة الموضوعات قبل نشرها في الصحف.

لم تقتصر الرقابة على الإعلام الإخباري، بل امتدت إلى الإنتاج الفني، فقد تحوّلت لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام إلى أداة رقابية صارمة، إذ فرضت حظر تناول السياسة في الأعمال الفنية إلا من منظور يخدم رؤية النظام، وألزمت المنتجين بتقديم رجال الشرطة والسلطات الرسمية بصورة إيجابية.

رئيس تحرير إحدى الصحف الكبرى قال لـ"رويترز" إن الناشرين في عهدي مبارك ومرسي لم يواجهوا الترهيب الذي يتعرضون له الآن، وأضاف أن مدير المخابرات العامة السابق عباس كامل مارس سيطرة محكمة على ما يُنشر في وسائل الإعلام، حتى أن الصحفيين أطلقوا عليه لقب "رئيس تحرير مصر".

تزايدت القبضة الأمنية على الإعلام بعد أزمة تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، حين شاركت بعض الصحف في تغطية موجة الاحتجاجات الشعبية ضد القرار، وعندها داهمت قوات الأمن مقر نقابة الصحفيين بالقاهرة، واعتقلت صحفيين بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، في سابقة هزّت المشهد الصحفي.

الرقابة تعززت لاحقًا عبر أدوات قانونية، ففي 2018 صدر قانون الإعلام الذي منح الدولة صلاحية حجب المواقع الإلكترونية ومعاقبة الصحفيين على ما تعتبره السلطات "أخبارًا كاذبة".

ونتيجة لذلك، جرى حجب مئات المواقع الإخبارية والمدونات المستقلة، في خطوة وصفتها منظمات حقوقية بأنها محاولة "لتجريف الفضاء الإعلامي".

تقرير "رويترز" أشار أيضًا إلى أن العاملين في صالات التحرير أكدوا أن رؤساء التحرير ملزمون بالحصول على موافقة ضباط المخابرات – الموجودين دومًا في الاستوديوهات – قبل بث أي برنامج، حتى لو كان رياضيًا أو ترفيهيًا.

أما منظمة "مراسلون بلا حدود"، فاعتبرت أن السيطرة الأمنية الكاملة على الصحف والقنوات الفضائية ألحقت ضررًا بالغًا بصورة الإعلام المصري عالميًا، لتصنّف مصر في مراتب متأخرة ضمن مؤشرات حرية الصحافة الدولية[1].

منظومة تشريعية لتقييد الحريات الصحفية

ولا تقتصر الرقابة في مصر على الممارسات الأمنية المباشرة، بل تمتد إلى منظومة تشريعية معقدة تضم ما يقرب من 200 مادة قانونية تفرض قيودًا صارمة على الحريات الصحفية، وتقر عقوبات مغلظة على المخالفين.

ويبرز في هذا السياق قانون "المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام"، الذي منح المجلس صلاحيات واسعة تشمل مراقبة المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلًا عن حجب أي موقع إلكتروني ترى السلطات أنه ينشر محتوى "تحريضيًا" أو "مسيئًا".

وتتجاوز الرقابة الإطار التقليدي إلى مراقبة الرسائل النصية والمرئية والمحادثات المتداولة عبر الشبكات الاجتماعية، في خطوة وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها "مؤشر على الرقابة الجماعية"، مؤكدة أن هذه السياسات تمثل تصعيدًا ممنهجًا للهجوم على حرية التعبير في بلد يُعد من أكثر البيئات قمعًا للصحافة عالميًا.

كما انتقدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" استغلال السلطات لتشريعات مكافحة الإرهاب في ملاحقة الصحفيين والنشطاء، معتبرة أن هذه القوانين ليست سوى أداة إضافية ضمن نهج قمعي أشمل يستهدف إسكات الأصوات المستقلة وتقييد المجال العام[2].

الرقابة الذاتية..الخوف يُدير غرف الأخبار

لا تقف الرقابة في مصر عند حدود الأجهزة الأمنية أو القوانين المقيدة، بل تمتد لتتحول إلى رقابة ذاتية تُمارس يوميًا داخل غرف الأخبار،  فقد أكد تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أن القوانين الصادرة في السنوات الأخيرة خلقت حالة من الخوف الدائم لدى الصحفيين، دفعتهم إلى ممارسة رقابة على أنفسهم طوعًا، تجنبًا للعقوبات أو الملاحقات الأمنية.

الرقابة الذاتية، بحسب التقرير، تعني امتناع الصحفي أو المؤسسة الإعلامية عن نشر معلومات أو آراء ليس بناءً على معايير مهنية، بل خشية التداعيات السياسية والأمنية والاقتصادية.

وهكذا، بات الصحفيون في مصر يراجعون محتواهم بعناية مفرطة، ويُقصون طواعية كل ما قد يُغضب السلطات أو يتعارض مع الخطوط الحمراء الموضوعة.

القوانين الفضفاضة التي تُجرّم نشر ما تصفه السلطات بـ"المعلومات الكاذبة" أو "المُهددة للأمن القومي"، دفعت الصحفيين إلى الابتعاد عن تناول ملفات حساسة مثل الجيش والقضاء والرئاسة.

ومع تركز ملكية وسائل الإعلام في يد الدولة أو رجال أعمال مقربين منها، أصبح العاملون في الحقل الصحفي محكومين بأجندة سياسية محددة، تُقصي أي انتقاد للجهات السيادية أو للحكومة، فضلًا عن رأس النظام.

هذا المناخ القمعي، الذي غذّته الاعتقالات الواسعة في صفوف الصحفيين منذ انقلاب 3 يوليو 2013، أسفر عن أكثر من 300 حالة اعتقال لصحفيين، لا يزال 44 منهم على الأقل خلف القضبان حتى اليوم.

وهذا الواقع يضاعف منسوب الخوف داخل الوسط الإعلامي، ويدفع من تبقى من الصحفيين إلى تشديد الرقابة الذاتية على أعمالهم، اتقاءً لمصير مشابه[3].

أشكال الرقابة داخل صالات التحرير

العودة إلى صحافة مصرية مستقلة، تنأى بنفسها عن السلطة وتلتزم بالمعايير المهنية من صدق وعمق ورصانة، باتت شبه مستحيلة في ظل تعدد أشكال الرقابة. وكيل نقابة الصحفيين محمد سعد عبد الحفيظ وصف المشهد بدقة حين قال: "الخوف يحكم غرف الأخبار، وسيف الرقابة مسلط على الجميع".

في الأوساط الصحفية، يدرك الجميع أن الحصار الأمني والخوف أصبحا المحدد الأساسي لعمل المؤسسات الإعلامية، حيث تحوّل الصحفيون إلى رقباء على أنفسهم، ملتزمين بالسقف الذي رسمه الرقيب، حتى دون الحاجة إلى تعليمات مباشرة من "جروب الواتساب" التابع للمخابرات – إحدى أبرز أدوات التوجيه سابقًا- فقد باتت الخطوط الحمراء محفوظة عن ظهر قلب، وأي خروج عنها يعرض الصحفي أو مؤسسته للمساءلة أو العقاب.

أحد أبرز مظاهر الرقابة الأمنية يتمثل في وجود ضابط مخابرات داخل غرف الأخبار، يتنقل بين الأقسام، ويطّلع على تفاصيل العمل اليومي، ويقرر ما يُنشر وما يُحجب.

وفي اجتماعات التحرير الصباحية، تُعرض أي فكرة جادة أو حساسة على الرقيب أولًا، ليبتّ فيها مباشرة أو يرفعها إلى القيادة العليا إذا تعذّر اتخاذ القرار.

ومع وجود هذا الرقيب الدائم، لم يعد رؤساء التحرير بحاجة إلى تذكير المحررين بالخطوط الحمراء، إذ يكفي أن يهمس زميل لآخر: "الموضوع ده مش هيتنشر، ولو اتنشر هيعمل مشكلة".

وهكذا، تحولت الرقابة الذاتية إلى آلية راسخة، كبّلت قدرة الصحفيين على التفكير والتحليل، وحوّلتهم إلى "حراس بوابة"، يمنعون تدفق الأخبار بدعوى حماية النظام أو الحفاظ على مؤسساتهم وزملائهم.

في هذا المناخ، لم يعد هدف الصحفي الاجتهاد في تقديم تغطية متميزة أو تحقيق انفراد مهني، بل أصبح جلّ تفكيره منصبًا على تجنب مصير من سبقوه، فقد دفع شبح التشريد والسجن والاغتيال المعنوي كثيرين إلى التوقف عن الكتابة، بل وحتى التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح "بوست" عابر على فيسبوك أو منصة (إكس) يحتاج إلى مائة تفكير قبل نشره، وقد يُحذف في اللحظة الأخيرة خشية العواقب.

ومن أشهر حوادث الرقابة التي كشفت آليات التحكم الأمني ما عُرف إعلاميًا بـ"جهاز السامسونج"، ففي عام 2019، قرأت مذيعة بقناة "إكسترا نيوز" خبر وفاة الرئيس الأسبق محمد مرسي، تضمن نفي تعرضه لأي إهمال طبي، لكن المذيعة أنهت الخبر بجملة غريبة: "تم الإرسال من جهاز سامسونج"، في إشارة غير مقصودة إلى أن النص وصلها مباشرة من جهة رقابية عبر الهاتف [4]  .

هذا المثال يختصر الواقع المؤلم للصحافة المصرية اليوم، التي فقدت مهنيتها ومصداقيتها، وباتت الصحف والقنوات تكرر الرواية الرسمية نفسها بصياغات مختلفة، في مشهد يعكس ضمور التنوع والتعددية، وتحول الإعلام إلى مجرد صدى لصوت السلطة.

ومن أبرز مظاهر تشديد قبضة الرقابة على الإعلام في مصر، تعيين رؤساء تحرير يفتقرون إلى الخبرة المهنية، ويُعرفون أكثر بعلاقاتهم الأمنية من تاريخهم الصحفي. هؤلاء، وفق توصيفات صحفيين، يسعون للبقاء في مناصبهم بأي وسيلة، ويمارسون دور "المروّجين" لكل تشريع جديد يقيد الحريات، إذ لا ينسى المصريون تهليلهم الصاخب عند صدور قانون "الجرائم الإلكترونية"، الذي منح السلطة حق حجب المواقع أو "المحتوى محل البث" إذا اعتُبر متضمنًا لعبارات أو صور أو مواد تُعد جريمة، أو تهديدًا للأمن القومي أو الاقتصاد.

القانون ذاته يتيح للسلطات تنفيذ الحجب الفوري دون الرجوع إلى القضاء، كما ينص على مراقبة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ويمنح صلاحيات واسعة تصل إلى منع السفر عن المتهمين بجرائم إلكترونية. وبفضل صياغاته الفضفاضة، مثل "الإضرار بالأمن القومي"، وقد استخدمت السلطات هذه التشريعات مرارًا لقمع المعارضة السلمية، ومع ذلك، وجد الشارع المصري رؤساء تحرير يثنون على هذه القوانين في مقالاتهم وعلى شاشات التلفزة، مبررين قيودًا تمس جوهر حرية التعبير.

بهذه المنظومة الأمنية، والرقابة الذاتية، والتشريعات المقيدة، تعرضت الصحافة المصرية لضربة قاصمة. فتحولت "صاحبة الجلالة" من سلطة رابعة تراقب وتحاسب إلى أسيرة خلف قضبان الخوف. وحتى عندما وارب السجّان باب الزنزانة قليلًا، لم يجرؤ أحد على الخروج، بل تكيفوا مع القيود واعتادوها. عندها فقط، ابتسم السجّان راضيًا عن نجاحه في إخضاع الصحافة وإخماد صوتها[5].

الرقابة تحت شعار "حماية الدولة"

الدوافع السياسية والأمنية كانت دومًا الذريعة التي تستند إليها الأجهزة الأمنية لتبرير إحكام قبضتها على غرف الأخبار في مصر.

وقد وصف تقرير نشره موقع "المنصة" العقد الماضي بأنه "الأسوأ في تاريخ الصحافة المصرية، حيث عاشت الصحف تحت وطأة رقابة مشددة بدعوى حماية الدولة وأمنها القومي من المغرضين والإرهابيين"

أشار التقرير إلى حالة ابتزاز مستمرة للصحفيين والمؤسسات الصحفية، ظهرت بوضوح في انتقادات "السيسي" المتكررة للإعلام، فعلى الرغم من أن هذا الإعلام تخلّى عن استقلاليته ومهنيته، وخضع بالكامل لتوجيهات الأجهزة الأمنية، فإن رأس النظام لا يرى فيه داعمًا كافيًا، بل زاد "السيسي" من ضغوطه على المؤسسات الإعلامية بقوله في إحدى المناسبات: " "الزعيم الراحل عبد الناصر كان محظوظ، صحيح، لأنه كان هو اللي بيتكلم والإعلام معاه!".

"السيسي" اعتاد تحميل الإعلام مسؤولية الإخفاقات والأزمات، واتهامه بالتقصير في "حماية الوطن"، إلا أن هذه الاتهامات- بحسب صحفيين وحقوقيين تحدثوا إلى "المنصة"- تبدو "غير مفهومة"، في ظل أن النظام نفسه هو الذي أحكم السيطرة على الإعلام، عبر الملكية المباشرة، أو التهديد، أو الحجب.

التقرير أشار إلى أن الصحافة المصرية أصبحت تصدر بعناوين شبه موحّدة طوال العقد الماضي، ففي 16 مارس/آذار 2015، صدرت 11 صحيفة – قومية وخاصة وحزبية – بعنوان واحد هو: "مصر تستيقظ"، المقتبس من كلمة "السيسي" في ختام المؤتمر الاقتصادي آنذاك، وذلك بناءً على توجيهات واضحة.

السيطرة لم تتوقف عند التوجيه، بل تصل للعقاب أيضًا، ففي عام 2018 أُقيل الصحفي محمد السيد صالح من رئاسة تحرير صحيفة "المصري اليوم"، بعد أن غرّمت الصحيفة 150 ألف جنيه بسبب تغطيتها للانتخابات الرئاسية، حيث نشرت عنوانًا في صدر صفحتها الأولى يقول: "الدولة تحشد الناخبين في آخر أيام الانتخابات"، وهي الانتخابات التي انتهت بفوز السيسي بولاية ثانية.

المدير التنفيذي لمؤسسة "حرية الفكر والتعبير"، محمد عبد السلام، قال لـ"المنصة": "إن الوضع الحالي للإعلام في مصر أسوأ حتى من قرارات تأميم الصحافة في عهد جمال عبد الناصر، فبينما كان التأميم قرارًا معلنًا، فإن السيطرة في السنوات الأخيرة تتم عبر شركة "المتحدة" التي يُنظر إليها على أنها كيان خاص، ويتم الاحتفاء بها من هذا المنطلق، رغم أنها أداة في يد الأجهزة الأمنية"[6]. وفي ظل هذه البيئة التبريرية، غابت كل مفاهيم استقلالية المؤسسات الإعلامية.

تحت الرقابة.. ملكيون أكثر من الملك

تُعد الرقابة الذاتية أخطر الآفات التي تضرب الجسم الصحفي في أي دولة، لأنها تحوّل الصحفي إلى أسير للأوامر والتوجيهات السيادية، فيمارس الرقابة على نفسه قبل أن تطاله يد الرقيب، وتحت وطأة هذا الخوف، يصبح الصحفي "ملكيا أكثر من الملك"، يتردد في تناول أي موضوع قد يثير غضب السلطات، ويحذف التفاصيل التي قد تُفهم باعتبارها تجاوزًا، ويتجنب الخوض في قضايا أو شخصيات عامة أو مؤسسات بعينها. هذه الممارسات، وفق خبراء، تمثل قتلًا صريحًا لحرية الإعلام.

وفي مصر، أدت الرقابة الذاتية إلى تآكل المهنية وانهيار أخلاقيات المهنة، ما انعكس سلبيًا على حق الجمهور في الوصول إلى المعلومة، وأفرغ الصحافة من جوهرها كسلطة رابعة، ومن أبرز آثار الرقابة الذاتية على الصحافة ما يلي:

  • إحجام الصحفيين عن التحقيق في قضايا الفساد، خصوصًا تلك التي تطال مسؤولين كبار أو جهات سيادية.
  • تجنب الحديث عن المعارضة السياسية أو تغطية تنظيم الاحتجاجات.
  • تخفيف لهجة النقد في المقالات والتحقيقات والتقارير، بحيث تبدو بلا أنياب.
  • التركيز على الأخبار الخدمية والترفيهية بدلًا من القضايا السياسية والحقوقية الجوهرية.
  • انتشار "صحافة البيانات"، حيث يكتفي الصحفيون بإعادة نشر البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة والرئاسة دون أي تدقيق أو إضافة.
  • تنفيذ التعليمات بلا نقاش، سواء جاءت من رؤساء التحرير أو من الأجهزة السيادية، مع تراجع الاعتبارات المهنية والضمير الصحفي.

في ظل هذه البيئة، بات الصحفي المصري يكتب وفي ذهنه شبح العقوبة، لا ميثاق الشرف الصحفي، ليغدو الإعلام أداة ترويج لا مرآة تعكس الحقيقة[7]، وهو ما ينسجم مع ما طرحه عالم النفس الاجتماعي كورت لوين في نظرية "حارس البوابة الإعلامية". فالحارس، وفق هذه النظرية، هو من يسيطر على موقع استراتيجي في سلسلة الاتصال، ويملك سلطة اتخاذ القرار بشأن ما سيمر عبر بوابته، وكيف سيمر، وصولًا إلى الجمهور، وبذلك، تصبح المادة الصحفية قبل نشرها أو بثها قد خضعت لقصّ أو حذف أو تعديل يفرغها من مضمونها الأصلي.

في هذه البيئة، لم تعد السلطة بحاجة إلى المواجهة المباشرة مع الصحفيين، فقد تولّى "حراس البوابة" – من ضباط ارتباط أو رؤساء تحرير موالين – مهمة ضبط المحتوى وفق الخطوط الحمراء، لتبدو الرقابة وكأنها ممارسة ذاتية داخل المؤسسات، لا فرض خارجي فقط.

نتيجة هذا الواقع، غاب الإعلام القادر على محاكاة هموم المواطنين والتعبير عن قضاياهم، لتصبح السمة الأبرز للمشهد الإعلامي في مصر هي الانفصال عن المجتمع.

وفي الفراغ الذي خلّفه هذا الغياب، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى المرجع الأول للمواطنين، والمصدر الأكثر مصداقية في نظرهم، حتى إن تصدّر وسم على "إكس" أو "فيسبوك" بات يجبر بعض وسائل الإعلام الرسمية والخاصة على تغطية القضية، ولو على استحياء.

هذا المشهد كرّس اتساع الهوة بين الجمهور ووسائل الإعلام، وأفقد الأخيرة مكانتها كسلطة رابعة، ومع تراجع الثقة، لم يعد المواطن يرى في الإعلام صوتًا للحقيقة أو أداة للمساءلة، بل مجرد بوق يكرر الرواية الرسمية، بينما تُترك مساحات النقاش والتعبير للفضاء الرقمي المفتوح[8].

أثر الرقابة على وسائل الإعلام

تداخلت السياسة مع المهنية في المشهد الإعلامي المصري خلال العقد الأخير، فأنتجت بيئة رقابية خانقة انعكست بوضوح على أداء الصحافة ووسائل الإعلام. ويمكن تلخيص أبرز هذه الآثار فيما يلي:

  • تقليص حرية التعبير: فرضت الرقابة الأمنية خطوطًا حمراء صارمة أمام الصحفيين والإعلاميين، خصوصًا في القضايا المتعلقة بالسياسة، الجيش، الأمن القومي، والفساد. تجاوز هذه الحدود قد يعني الاعتقال أو الملاحقة القضائية.
  • تقييد التعددية الإعلامية: أصبحت الرقابة أداة للسيطرة على المحتوى الإعلامي، ما ضيّق المساحة المتاحة للأصوات المعارضة أو المستقلة، وحوّل الإعلام إلى صدى للصوت الرسمي للدولة.
  • الرقابة المسبقة واللاحقة: تخضع المواد الإعلامية في كثير من الأحيان لمراجعة قبل النشر، أو يعاقب الصحفيون بعد النشر، وهو ما فرض مناخًا من الحذر الدائم داخل غرف الأخبار.
  • الإغلاق والحجب: أغلقت أو حُجبت خلال السنوات الأخيرة مئات المواقع الإخبارية، ما أدى إلى تقليص التنوع في المصادر الإخبارية المتاحة للمواطنين.
  • ترسيخ الرقابة الذاتية: نجح النظام في زرع الخوف داخل الوسط الصحفي، حتى بات الصحفيون يمارسون رقابة على أنفسهم طواعية، ويتجنبون تناول موضوعات حساسة درءًا للعواقب.
  • تراجع الجرأة المهنية: انحسر دور الإعلام عن مساءلة السلطة أو طرح القضايا الجدلية، إذ يمتنع كثير من الصحفيين عن النقد الجاد خوفًا من العقوبات أو فقدان وظائفهم.
  • فقدان الثقة بالإعلام المحلي: حين يرى الجمهور أن الإعلام لا يطرح واقعه بصدق ولا يناقش قضاياه الجوهرية، يفقد الثقة به، ويلجأ إلى منصات بديلة، غالبًا خارجية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
  • خروج الصحفيين من المهنة: دفعت البيئة القمعية بعض الصحفيين إلى مغادرة المهنة أو الهجرة للعمل في الخارج، خاصة بعد الملاحقات القضائية واعتقالات متكررة وفصل تعسفي لأصحاب الأقلام الحرة[9].

لذلك، ووفقًا لتقرير "مراسلون بلا حدود" لعام 2025، استمرت مصر ضمن أسوأ عشر دول على مؤشر حرية الصحافة، محتلة المرتبة 170 من بين 180 دولة، وهو أسوأ ترتيب منذ عام 2014، وذلك في ظل استمرار اعتقال 44 صحفيًا، وحجب المواقع، وغياب البنية التشريعية التي تحمي العاملين في المهنة[10].

وسائل الإعلام تفقد مصداقيتها:

في ظل الواقع الإعلامي المتردي، أكدت دراسة أعدتها الدكتورة سمية عرفات، ونشرتها المجلة المصرية لبحوث الرأي العام تحت عنوان: "اتجاهات الجمهور المصري نحو مصداقية وسائل الإعلام التقليدية والجديدة عقب أحداث الثلاثين من يونيو"، أن أكبر ضحيتين لهذا الوضع هما المهنية والحرية.

وبحسب الدراسة، فقد انهارت المعايير المهنية وغابت الموضوعية، لتحل محلها حالة من الانحياز الصريح لوجهة نظر متخذ القرار، وهو ما أفقد العمل الصحفي توازنه وأضعف قدرته على أداء وظيفته الأساسية.

كما أشارت إلى أن هناك من يبرر هذا التدهور، متغافلًا عن الأسس المهنية التي يجب أن تقوم عليها معالجة الأحداث والقضايا.

وأوضحت الدراسة أن بنية الإعلام المصري شهدت تحولات كبيرة عقب ثورة 25 يناير، نتيجة التغييرات التي طرأت على البنية المجتمعية والهيكلية للدولة، ما خلق هامشًا أوسع للتعددية والتعبير، لكن بعد 30 يونيو، انقلب المشهد تمامًا، إذ ظهر منحى جديد أساء بشدة للعمل الصحفي، حيث أصبح كل ما يُعرض للنشر أو البث يخضع لرقابة صارمة، أفقدت وسائل الإعلام ما تبقى لها من مصداقية[11].

في السياق ذاته، رصدت دراسة صادرة عن "مؤسسة حرية الفكر والتعبير" بعنوان "تقييد حرية الإعلام بدعوى مجابهة الأخبار الزائفة"، نُشرت في فبراير 2025، كيف تحولت سياسات الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام، خصوصًا داخل غرف الأخبار، إلى أداة أفقدت الإعلام المصري مصداقيته، ودَفعت الجمهور إلى النفور منه والتوجه نحو الإعلام المستقل والمعارض، سواء في الداخل أو الخارج.

وأوضحت الدراسة أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام يطبق سياسات رقابية تقوم على تقييد الصحف والقنوات ومعاقبتها تحت ذريعة "مكافحة الشائعات"، لكنه في المقابل يفشل في تمكين الصحفيين من الوصول إلى المعلومات الرسمية.

وطالبت الدراسة المجلس بمراجعة هذه السياسات، والتركيز بدلًا من ذلك على دعم حرية الإعلام وتداول المعلومات، بدلًا من ملاحقة الصحفيين عبر اتهامات فضفاضة.

وأشارت الدراسة إلى أن الإعلام لا ينبغي أن يتحول إلى أداة لتضليل الجمهور عبر إخفاء الحقائق أو تقديم تغطيات غير دقيقة، ولفتت إلى غياب توصيف واضح لمفهوم "الأخبار الزائفة"، حيث تُدرج أحيانًا التقارير الصحفية الناقدة ضمن هذا التصنيف، رغم استنادها إلى مصادر موثوقة وحقائق مثبتة.

وأضافت الدراسة أن وجود "الرقيب" داخل المؤسسات الإعلامية أصبح عاملًا معرقلًا لتطور الصحافة في مصر، كما بيّنت أن المواقع المستقلة مثل:  مدى مصر، والمنصة، وذات مصر، تتعرض بشكل متواصل للملاحقات الأمنية والقضائية، فضلًا عن حجب محتواها.

وغالبًا ما تُصنّف مقالاتها النقدية باعتبارها "أخبارًا زائفة"، رغم أنها مبنية على تحقيقات دقيقة ومصادر موثوقة، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول نزاهة هذه الإجراءات ومدى توافقها مع مبادئ الشفافية وحرية الإعلام[12] .

في ضوء ما سبق، يتضح أن المشهد الإعلامي في مصر يعيش أسوأ مراحله منذ عقود، حيث اجتمعت الرقابة الأمنية والتشريعات المقيدة والرقابة الذاتية لتجعل الصحافة أسيرة الخوف وفاقدة لمصداقيتها.

ومع غياب المهنية وتقييد الحرية، تآكلت ثقة الجمهور في الإعلام المحلي، واتسعت الفجوة بينه وبين المجتمع، فيما تحولت منصات التواصل الاجتماعي والمواقع المستقلة إلى الملاذ البديل للباحثين عن المعلومة.

وهكذا، لم يعد الإعلام في مصر يقوم بدوره كسلطة رابعة، بل أصبح أداة في يد السلطة، تُعيد إنتاج الرواية الرسمية بصيغ متعددة، في مشهد يلخص مأساة "صاحبة الجلالة" في زمن القبضة الأمنية.


المصادر:

[1]   "رويترز تكشف.. كيف سيطرت المخابرات على الإنتاج التلفزيوني في مصر؟" ، الجزيرة نت ، 12 ديسمبر 2019، https://linksshortcut.com/roqFs

[2]  "مصر تعزز قبضتها الرقمية: البرلمان المصري يمنح الدولة سلطة واسعة على الرقابة" ، ايلاف ، 13 يناير 2025، https://linksshortcut.com/PqBdK

[3] "هيئات جديدة لتنظيم ومراقبة وسائل الإعلام في مصر"، بي بي سي، 13 أبريل  2017 ، https://linksshortcut.com/ToIMo

[4] محمد سعد عبد الحفيظ، "راس بوابة السلطة.. الخوف يحكم غرف الأخبار"، مدى مصر ، 2 سبتمبر 2019، https://linksshortcut.com/zlaDO

[5] "في عصر «الأخبار الكاذبة».. مصر تفرض الرقابة وتُكمّم الأفواه" ، التحرير،1 يناير 2018 ، https://linksshortcut.com/AudAf

[6] ""حرية الصحافة".. 10 سنوات من السيطرة بالعتاب والأوامر" ، المنصة ،   2  مايو 2024، https://manassa.news/stories/17380

[7] سفيان السعودي، "لرقابة الذاتية وحماية الصحفيين رقميًا في الأنظمة الاستبدادية" ، شبكة الصحفيين الدوليين، 19 ديسمبر 2023 ، https://linksshortcut.com/LBdQX

[8] هبة الحياة عبيدات، "الرقابة الذاتية.. "التضييق الناعم" على الصحافيين" ، معهد الجزيرة للدراسات مجلة الصحافة، 19 يناير 2020 ، https://linksshortcut.com/cBmSF

[9] برنامج"شات. جي . بي . تي" للذكاء الاصطناعى بتصرف

[10] "اليوم العالمي للصحافة.. مصر بين أسوأ التصنيفات وأقسى القيود" ، نون بوست ، 4 مايو ,2025 ، https://www.noonpost.com/310383/

[11] د.سمية عرفات، "اتجاهات الجمهور المصرى نحو مصداقية وسائل الإعلام التقليدية والجديدة عقب أحداث الثلاثين من يونيو" ، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، 12ديسمبر 2013 ، https://joa.journals.ekb.eg/article_80291.html

[12] رحمة سامي، "تقييد حرية الإعلام بدعوى مجابهة الأخبار الزائفة"، حرية الفكر والتعبير ، 17 فبراير  2025 ، https://linksshortcut.com/voEWL