الدولة الموازية تحرق مصر.. هل يتطاير الشرر من السنترال؟!

الخميس - 17 يوليو 2025

- أ. د. سليمان صالح
( أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة )

أ . د سليمان صالح

المشهد في مصر يقدّم مؤشرات على خطر يهدد وجود الشعب، وينذر بأن الحريق يمكن أن يمتد فجأة من سنترال رمسيس إلى المستقبل، وأن الشعب يجب أن ينتفض ليدافع عن حقه في الحياة، ويغيّر الواقع المرّ.
ونحن يجب أن نقدم الحقائق لشعبنا؛ فالانقلاب العسكري اعتمد على تجهيل الجماهير، وتضليلها باستخدام شعارات وطنية، وتسويق الأوهام عن الاستقرار والرخاء القادم، وأنه سيُغني الناس أولًا، وسينقل مصر إلى مكان آخر ربما خارج الأرض، وأن الذهب سيتدفق عليهم حتى يصبح المصري مثل علي بابا.
لكن ذلك المصري أصيب بصدمة بعد سنوات، عندما رأى "السيسي" يقول له: إنه يجب أن يدرك أنه فقير جدًا، وأن مصر شبه دولة، وأنه لم يجد دولة، وهم قالوا له "خد دي"، في إشارة إلى احتقار هذه الدولة، وأنها بلد فقير، مواردها شحيحة، وأن على المصري أن يتوقف عن الإنجاب. وأكمل الإعلاميون المنافقون السردية: بأن حدود مصر ليس هناك أطول منها، ومن لا يعجبه عليه أن يرحل.
إنهم يحتقرون مصر!!
أهم ما يمكن أن نستنتجه من تحليل خطاب السيسي وأتباعه من المنافقين أن الذين يسيطرون على الحكم يحتقرون مصر كدولة وشعب وتاريخ، ويرون أن المصريين لا يستحقون الديمقراطية لأنهم انتخبوا الإسلاميين، الذين أشار لهم "السيسي" باحتقار، موجّهًا اللوم للشعب قائلًا: "هو أنا اللي جبتهم ولا إنتو اللي جبتوهم؟"
أعتذر لكم عن نقل كلمات "السيسي" الركيكة، فهو لا يعرف اللغة العربية الفصحى، ولا يجيد التعبير بها، وهي بالتأكيد أشرف وأسمى من أن تحمل تعبير "السيسي" عن احتقاره لمصر وشعبها.. فهي لغة يدرك جمالها فقط من يعشقونها، ويعتزون بالانتماء للإسلام دينًا وعقيدة ودولة وثقافة وحضارة وتاريخًا ومستقبلًا، وأمة عظيمة تكافح للتحرر من الاستعمار.

ومن المؤكد أن السيسي وأتباعه من المنافقين لا يفهمون هذه المعاني، وهم يبحثون عن تحقيق مصالحهم المادية الخاصة، ويغرقون في الترف الذي أصابهم بالعمى عن رؤية ثروات مصر الحقيقية.

هل نجح في أن يُغني الناس؟!
ولقد كان "السيسي" جادًا عندما قال: "إنه يريد أن يُغني الناس"، لكن شعب مصر هو الذي أخطأ في فهم مقولته؛ فهو يقصد بالناس دولته الموازية – طبقًا للمصطلح الذي صكه يزيد صايغ – التي بناها لتحتكر الثروة والقوة والحكم والترف، وتعيش في مدن ذكية وتستكبر على الشعب الفقير الذي يزيد عدده على 100 مليون نسمة، وتستخدم كل الوسائل لإخضاعه وقهره وقتل أشواقه للحرية والعدالة والاستقلال.
ولقد شاع استخدام كلمة "ابن ناس" في مصر منذ بداية عهد الانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن الماضي للدلالة على الغني المترف، وهو تعبير عنصري ألحق الأذى بنفوس الكثيرين من شباب مصر المثقفين الذين حققوا التفوق في الجامعات، لكنهم لم يجدوا فرصة للتعيين في وظائف متميزة، خاصة في وزارة الخارجية والقضاء والإعلام، واضطر بعضهم للانتحار لأنهم لم يكونوا "أولاد ناس" بمقاييس السلطة الديكتاتورية، التي مارست الاستكبار على شعب مصر وغرّتها قوتها، فأعمت أعينها وأصمت آذانها، وزادتها جهلًا وحمقًا وغباءً.
لكن الطبقة التي توصف بأنها "أولاد ناس" ضاقت بعد الانقلاب العسكري حتى أصبحت لا تتجاوز 2 مليون فقط، وهذه الطبقة شكّل منها "السيسي" دولته الموازية، ونقل لها الثروة لتزداد كِبرًا وبطرًا وغرورًا وجشعًا، وهي على استعداد أن تدمر مصر كلها لتستمر في الاستمتاع بالمال الحرام، وهي تبالغ في التعبير عن ولائها للسيسي، وتستخدم اللجان الإلكترونية التي توجه الشتائم لكل صاحب رأي حر، مع ترديد عبارة "تحيا مصر" ثلاث مرات قبل الأكل وبعده.

من الذي يريد لمصر أن تحيا؟!
لكن هل يريد هؤلاء لمصر أن تحيا، أم أنهم يريدون أن ينهبوا ثرواتها ويستكبروا على شعبها، وهم يعيشون بعيدًا عن مشاكلها، ولا يسمعون صرخات الفقراء الذين يتزايد عددهم كل يوم، وتنهار قدرتهم على مواجهة حياة الموت أفضل منها.
تعالوا نراجع ما حدث منذ ثورة 25 يناير 2011، ونحاسب أنفسنا، ليتحمل كل إنسان مسؤوليته بوضوح.

لقد خرج شعب مصر يحمل حلمه إلى الميادين ليصرخ في وجه الطغاة الظالمين، وعندما انتصر الشعب كمنت الدولة الموازية، وتحالفت مع أمريكا و"إسرائيل" وأوروبا والدول الإقليمية لتدمير حلم الشعب المصري؛ لأن هذا الحلم يعني أن تصبح مصر حرة قوية مستقلة غنية لا يستطيع أحد أن يتحكم فيها، وهذا يشكّل خطرًا على "إسرائيل" والسيطرة الغربية.
ولقد انتخب الشعب المصري نوابه الذين يعبرون عن حلمه ويدافعون عنه، ويعملون لتحقيقه في أول وآخر انتخابات حرة تشهدها مصر، وكان هؤلاء النواب الشرفاء يطلقون خيالهم لتحقيق التقدم في كل المجالات، وهؤلاء النواب برزوا من داخل المجتمع، لذلك لم يستكبروا على شعبهم ويدّعوا أنهم "أولاد ناس"، كانوا يرون أن شعب مصر كله "ناس"، وأن كل مصري إنسان له كل الحقوق، وله أن يتمتع بكل الحريات العامة والخاصة والكرامة الإنسانية، ومن المؤكد أن الدولة الموازية ترفض هذا الاتجاه، ولا يمكن أن تتقبل فكرة المساواة بين أبناء الشعب.

رئيس يحقق حلم شعبه!
ثم انتخب شعب مصر العالِم المثقف الأستاذ الدكتور محمد مرسي، الذي يحلم بالاستقلال الشامل، وأن تصنع مصر سلاحها ودواءها وغذاءها، فتفرض إرادتها، وتبني قوتها.
واحترم الرئيس مرسي قواعد الديمقراطية الغربية، فقام بحماية لجنة الدستور لتتمكن من صياغة دستور هو بالتأكيد أفضل وثيقة دستورية في العالم، تحمي حقوق المواطنين وحرياتهم وكرامتهم، وأصدر إعلانًا بدعوة الناخبين لانتخاب مجلس شعب جديد.
لذلك أدركت الدولة الموازية أن الانقلاب هو الحل الوحيد لتدمير حلم شعب مصر في الحرية والديمقراطية والسيادة والقوة، واستخدمت الدول الإقليمية أموالها التي تدفقت على البلطجية وحركات "تمرد" و"البلاك بلوك"؛ لتدمير مصر، لكن قبل الانقلاب أثارت الفوضى، وضللت الشعب بفكرة أن الأمن والاستقرار ولقمة الخبز أهم من الحرية والديمقراطية والكرامة، لكن المشهد اليوم يؤكد أن شعب مصر فقد كل شيء، ولم يعد أمامه سوى أن يدافع عن حياته المهددة.

التعذيب في السجون.. لماذا؟!
والدولة الموازية التي بناها "السيسي"، وأغدق عليها من ثروات مصر حتى أصابتها التخمة والبلادة، تعرف جيدًا القادة الحقيقيين لشعب مصر، فقامت باعتقالهم وتعريضهم للتعذيب الجسدي والنفسي، وسمحت بتسريب قصص التعذيب الرهيبة التي تصل إلى درجة تعريض السجين للموت البطيء؛ لتقول لشعب مصر: هؤلاء هم قادتكم الذين انتخبتموهم، والذين يعبرون عن حلمكم، ومن يحلم بالحرية والكرامة سيتعرض لأقسى أنواع القهر، تمامًا كما كانت تفعل محاكم التفتيش في المسلمين الذين تمسكوا بالإسلام بعد سيطرة الصليبيين على الأندلس.
أما علماء مصر في الجامعات، فتم فصلهم وإفقارهم حتى لا يجرؤ أحد على أن يتحدث عن الحرية والديمقراطية، أو يتحدث في السياسة والاجتماع والدين والأدب والإعلام والإدارة والاقتصاد، فانهار التعليم، وتسلل النفاق الرخيص إلى البحث العلمي، ولِيَتصدر الساحة الذين يجيدون النفاق وتنفيذ أوامر الأجهزة الأمنية.

الشرر يتطاير من السنترال!
ولقد تمكن "السيسي" من تضييق نطاق دولته الموازية، ففقد الكثير من الذين ساندوه في الانقلاب مكانتهم، وانضم الكثير منهم إلى صفوف الفقراء دون أن يجرؤ أحد منهم على الكلام أو حتى الصراخ من الألم، فدولة السيسي الموازية لا ترحم، ولا تهتم بحياة أي مصري.
لكن هناك الكثير من المؤشرات على أن تلك الصيغة لن تستمر طويلًا؛ فالفقر يتزايد، والديون تتراكم، والظلم يدمر العمران، والحرائق تشتعل حتى طالت مركز الاتصالات الرئيس (سنترال رمسيس)، وسوف يتطاير الشرر من المبنى العتيق ليحرق الكثير من المباني التي تريد الدولة الموازية بيعها، ومن المؤكد أن الشرر يصل إلى قلب الدولة الموازية ومراكزها الحساسة، ولن تنجح المجمعات السكنية الفاخرة في المدن الذكية في حماية أعضاء الدولة الموازية.
ما الحل؟
أنا كأستاذ للرأي العام أرى أن السخط الشعبي يتزايد، ولم يعد أحد يصدق إعلام الدولة الموازية، وأن كراهية الشعب للنظام تزايدت، وأن الدولة الموازية لن تصمد في مواجهة الشعب، وسوف يهربون ليلحقوا بملايينهم التي خزنوها في البنوك الأجنبية.
والحل الوحيد أمام هذا الشعب هو أن ينتفض ليدافع عن حقه في الحياة، ويخرج قادته من السجون ليحققوا حلمه في الحرية والديمقراطية والاستقلال، وليصبح كل المصريين من الناس يتمتعون بالحق في حياة كريمة في وطن حر،  ودراسة التجربة تضيء الطريق للشعب ليبني مستقبله.