رغم مرور 10 سنوات| مصر تواصل التعتيم على تقرير أدلة "مذبحة رابعة"!
السبت - 17 آغسطس 2024
- عمد "السيسي" إلى إخفاء التقرير لتورطه شخصيا وإصداره أوامر القتل بوحشية
- التقرير أكد استخدام الشرطة والجيش الذخيرة الحية بشكل عشوائي وغير متناسب
- اللجنة: كان ممكنا فض الاعتصام دون إسالة كل هذه الدماء لولا وجود قرار مسبق
- قائد مذبحة رابعة اعترف باستبعاد بدائل الفض بأقل خسائر بما يؤكد حالة التعمد
- "السيسي" منع تشكيل هيئة قضائية موسعة للتحقق مع المسئولين عن المذبحة
إنسان للإعلام- خاص:
يوم 23 نوفمبر 2014 استقبل قائد الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، وفد "اللجنة القومية المستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصي الحقائق في الأحداث التي واكبت ثورة 30 يونيو وما أعقبها من أحداث"، التي كتبت تقريرها حول ما جرى في مجزرة رابعة وغيرها.
سلّمت اللجنة تقريرها النهائي- الذي جاء في 766 صفحة فضلاً عن 11 ألف صفحة من الملاحق والمرفقات والوثائق، بخلاف الأسطوانات المحتوية على أدلة وصور وفيديوهات. - للسيسي، لكنها لم تنشره عقب مؤتمرها الصحفي، الذي جاء بعد 3 أيام من لقاء السيسي، واكتفت بملخص تنفيذي من 57 صفحة، من بينها 7 صفحات فقط حول فض اعتصام رابعة.
وحتى اليوم، لم ينشر التقرير النهائي رغم مرور 11 عاما على المجزرة، وتوفي رئيس اللجنة فؤاد رياض في يناير 2020م عن عمر ناهز 92 عامًا، وكان آخر ما كتبه قبل شهر من وفاته على "فيسبوك" شكوى من أن تقرير اللجنة "لا زال طي الكتمان"، أي أن السيسي يمنع نشره، لأنه أول المتورطين في أعمال القتل، وهو من حال دون فض الاعتصام بطريقة سلمية وبمهنية.
لا مساءلة للقتلة حتى الآن!
في أغسطس 2023، حصلت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" على التقرير من "مصدر موثوق، وأعادت نشر محتويات ونتائج تحقيق اللجنة هذا العام أيضا، تزامنا مع ذكرى فض رابعة، أي بعد مرور 11 عامًا على وقوع المذبحة، وركزت على البعد الغائب في الموضوع وهو عدم مساءلة مجند أو ضابط أو مسؤول حكومي واحد.
ومما جاء في التقرير، بحسب "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن السيسي وجه بإحالة التقرير النهائي إلى مجلس الوزراء "لدراسته وإرساله إلى كافة الجهات المعنية والقضائية المختصة لاتخاذ اللازم فيما جاء بالتقرير من وقائع"، لكن لم يحدث شئ حتى الآن.
وبحسب الأرقام الرسمية النهائية للجنة القضائية، فقد أسفرت عملية فض اعتصام رابعة وحدها وفي يوم واحد عن مقتل أربعة ضباط وخمسة مجندين من قوات الشرطة وما لا يقل عن 618 مدنيًا، وهو رقم تقر السلطات بأنه يقتصر فقط على الجثث التي وردت إلى مصلحة الطب الشرعي ولا يشمل الضحايا المدنيين الذين استخرج أقاربهم تصاريح بالدفن ونقلوهم بمعرفتهم من مقر الاعتصام، والذين قدرت مصادر مستقلة عددهم في حدود 200 آخرين.
وقدم الملخص التنفيذي للتقرير نفس الرواية الرسمية، التي رددتها السلطات الرسمية في أعقاب المذبحة، وهي الرواية ذاتها التي اعتمدتها النيابة العامة لاحقًا كأساس لاستجواب ومقاضاة 739 شخصًا-جميعهم من المعتصمين- في محاكمة جنائية بتهم التجمهر والقتل والعنف وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، بدأت في 2015 وانتهت بعد ثلاث سنوات بأحكام بالإعدام والمؤبد، فضلًا عن إدانة 22 طفلًا قُبض عليهم أثناء أو عقب فض الاعتصام وحكم عليهم بالسجن عشر سنوات يتلوها الخضوع لمراقبة الشرطة لخمس سنوات أخرى.
خمس حقائق بعد عشر سنوات
وقالت"المبادرة" في تقريرها المنشور عام 2023: "إن التقرير يتخذ أهميته، ليس فقط من كونه التحقيق الرسمي الوحيد في فض الاعتصام حتى الآن، وإنما في استناده لوثائق رسمية لم تنشر أو يكشف عنها من قبل، من بينها خطة الفض التي أقرتها غرفة عمليات مشتركة من وزارتي الداخلية والدفاع، والتي قدمت الداخلية نسخة منها إلى اللجنة، وتقرير الوزارة عن عملية الفض بعد انتهائها، والذي استند إلى محضر تحريات قطاع الأمن الوطني.
كما يتضمن التقرير إفادات رسمية لمسؤولين التقتهم اللجنة، من بينهم قائد عملية فض الاعتصام، مدير العمليات الخاصة بالأمن المركزي وقتها، ورئيس مجلس الوزراء وأحد نوابه، فضلاً عن إفادات مصلحة الطب الشرعي بوزارة العدل وهيئة الإسعاف بوزارة الصحة وعدد من الضباط الذين شاركوا في عملية الفض.
وأكدت أن دراسة المعلومات والأدلة والمصادر والإفادات التي جمعتها اللجنة القومية، فضلًا عن الاستخلاصات والتوصيات التي تضمنها تقريرها غير المنشور حول فض رابعة، والتي تجاهلها أو حرفها أو ناقضها "الملخص التنفيذي" المعلن، يكشف عن خمس حقائق رئيسية:
أولًا- استخدام الذخيرة الحية بشكل عشوائي وغير متناسب:
كان المسؤولون عن قرار إنهاء الاعتصام وتنفيذ عملية الفض- وعلى مستويات عدة- على علم مسبق بأعداد القتلى المتوقعة بين المعتصمين في حالة فض الاعتصام في يوم واحد؛ بل إن المسؤولين عن وضع خطة الفض ناقشوا عدة سيناريوهات متوقعة لعملية فض الاعتصام، كان من بينها احتمالات استخدام عناصر مسلحة للذخيرة الحية، أو استعمال النساء والأطفال وباقي المعتصمين السلميين "كدروع بشرية"، أو إرغام المعتصمين على عدم المغادرة، أو وصول "مسيرات غير سلمية" لمؤازرة المعتصمين أثناء الفض، وهي جميعًا من بين السيناريوهات التي تزعم الرواية الرسمية أن القوات فوجئت بها فاضطرت للرد عليها دون تخطيط مما تسبب في سقوط القتلى من المعتصمين.
وعليه تضمنت خطة الفض التي قدمتها وزارة الداخلية للجنة، والتي لم تنشر من قبل، 10 سيناريوهات متوقعة أو جائزة الحدوث، تحت عنوان "المخاطر والعدائيات التي يمكن تنفيذها بمعرفة الإخوان ضد القوات والمواطنين":
- الحواجز والحوائط الأسمنتية والكتل الخرسانية وأجولة الرمال…وإزالتها باللوادر المدرعة.
- وضع العوائق في مواجهة مركبات الشرطة لتعطيلها، وإزالتها باستخدام معدات كسح الأرض.
- إشعال النيران في إطارات السيارات والأخشاب لمنع تقدم القوات، واستخدام سيارات الإطفاء لإخماد النيران.
- توقع تحريض قيادات الإخوان والعناصر المسلحة للمتجمعين لإرغامهم وعدم السماح لهم بالخروج والاستمرار في التواجد بمنطقة التجمع.
- محاولة تفجير اسطوانات الغاز أو قنابل الصوت لإثارة المتجمعين وتحريضهم ضد قوات الفض.
- محاولة تفجير بعض العبوات الناسفة عند الحواجز حول منطقة التجمع لإبعاد القوات وفك الحصار.
- استخدام النساء والأطفال كدروع بشرية مع إطلاق النيران من خلف السواتر علي القوات، وتكون الأولوية لسلامة الأطفال والنساء واستخدام الغاز المسيل للدموع فقط وبالقدر اللازم.
- احتمال قدوم مسيرات غير سلمية من بعض المحاور خلف القوات لمناصرة المتجمعين والاعتداء على قوات الشرطة لتشتيت جهودهم، ويستخدم لمواجهتها قنابل الغاز المسيل للدموع.
- محاولة المتجمعين المسلحين إطلاق النيران على المتجمعين السلميين لقتل عدد منهم والادعاء على قوات الشرطة بقتلهم.
- السعي إلى تهريب المحرضين وقيادات الجماعة وترك عناصر إجرامية للقيام بأعمال النهب والسرقة للمساكن والمنشآت بالمنطقة."
وعلى الرغم من تناول خطة الفض لهذه التوقعات ودراستها والاستعداد لها قبل العملية، فإن تقرير اللجنة انتهى إلى نتيجة واضحة، وهي أن إطلاق قوات الفض للنار باستخدام الذخيرة الحية كان عشوائياً وغير متناسب، وذلك على الأقل في الساعات الخمسة بدءاً من الواحدة ظهرًا، حين أصدر القائد الميداني قرار استدعاء المجموعات القتالية الاحتياطية المسلحة وفقًا لخطة الفض، وحتى السادسة مساء، حين تمكنت القوات من الدخول لقلب الاعتصام وفرض السيطرة والبدء في إخلاء المعتصمين، وهي الفترة التي شهدت وقوع أغلب القتلى والإصابات، حسبما تشير الإفادات التي وثقتها اللجنة القومية خاصة من المسعفين والأطباء بمستشفى رابعة العدوية ومستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر.
وفي تحليله النهائي طرح تقرير اللجنة سؤال التناسب: "هل حافظت قوة الفض على التناسب في إطلاق النار من حيث نوعية السلاح وكثافة النيران ونتائج فض التجمع من قتلى وجرحى وإتلاف للممتلكات العامة والخاصة؟"
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال قال التقرير:"وفي تقدير لجنة تقصي الحقائق أن الحكم على ما إذا كانت قوات الأمن قد أفرطت في استخدام القوة مما أفضى إلى هذا العدد الكبير من الضحايا في صفوف المتجمعين يتوقف على عدد من المعايير الفنية الواجب بحثها"، كعدد الضحايا وعدد المسلحين وعدد قوات الفض ونوع أسلحتها ومدى تكدس الأفراد وتوقيت ومدة الإنذار.
وفي نهاية التحليل فإن التقرير يقدم الاستخلاص التالي: ""أن هيئات إنفاذ القانون، وإن توافر لها السبب المشروع لفض التجمع، وحالة الضرورة في استخدام الأسلحة النارية وحافظت على التناسب النوعي بين الأسلحة المستخدمة، إلا أنها أخفقت في تقدير أعداد الضحايا عند الرد على مصادر النيران الآتية من قبل العناصر المسلحة".
وأشار التقرير أكثر من مرة أن إطلاق النار العشوائي ساد بكثافة تحديدًا بعد سقوط أحد الضباط قتيلاً برصاصة في الرأس من ناحية المتجمعين، وهي اللحظة التي أشار لها التقرير بتعبير "انفرط عقد النظام". ليخلص في موضع آخر إلى أن قوات الشرطة "أخفقت في التركيز على مراكز إطلاق النار".
ثم جاءت العبارة الحاسمة: "ولا تشك لجنة تقصي الحقائق في أنه كان من الممكن إنهاء تجمع رابعة دون أن تسال كل هذه الدماء"
ثانيًا: استبعدوا بدائل الفض بخسائر بشرية أقل!
وثق التقرير للمرة الأولى بشكل رسمي أن المسؤولين عن وضع خطة الفض ناقشوا قبل العملية بدائل أخرى لفض الاعتصام دون اللجوء لاستخدام القوة، كان من شأنها تقليل عدد المعتصمين ومنع سقوط هذا العدد الهائل من القتلى، ولكنهم تراجعوا واختاروا فض التجمع في وقت قصير بكلفة بشرية أعلى وعلى أساس حجج واهية.
حيث حصلت اللجنة القومية المستقلة على إفادة رسمية من قائد عملية فض رابعة وهو اللواء مدحت المنشاوي، مدير الإدارة العامة للعمليات الخاصة بقطاع الأمن المركزي بوزارة الداخلية في ذلك الوقت، والذي تمت ترقيته بعد فض رابعة لمنصب مساعد وزير الداخلية للأمن المركزي في ديسمبر 2014م (أي بعد شهر من تسليم التقرير النهائي)، حيث أكد في إفادته أنه قاد العملية على رأس تشكيلات من الأمن المركزي مدعومة بقوات أمن من مديرتي القاهرة وحلوان، وبتأمين ومساعدة من وحدات القوات المسلحة. وتضمنت إفادة القائد الميداني إلى اللجنة ما يلي نصًا:
"هذا وقد قرر بمناقشة وزارة الداخلية لعدة بدائل لفض تجمع رابعة العدوية بخلاف استخدام القوات في الفض، ومن تلك البدائل:
(١) قطع المياه والكهرباء وفتح الصرف الصحي على منطقة التجمع لإجبار المتجمعين على إخلاء وفض التجمع وهو ما تم التراجع عنه لما له من أثر على المواطنين المقيمين بالمنطقة وزيادة معاناتهم والمتمثلة في وجود التجمع ذاته.
(2) محاصرة التجمع من الخارج ومنع وصول المؤن الغذائية وكذا منع دخول أفراد جدد إلى منطقة التجمع والسماح بالخروج منه فقط إلا لقاطني المنطقة إلا أن ذلك البديل قد تم استبعاده لما له من أثر على سكان المنطقة في منع وصول ذويهم والمواد الغذائية إليهم".
كان مسؤولو الدولة إذًا على علم مسبق بوجود بدائل من شأنها تحقيق هدف إنهاء الاعتصام مع حفظ الأرواح أو تقليل القتلى ولكنهم قرروا عمدًا عدم استعمال تلك البدائل.
ومن المهم التذكير بأن الاعتصام ظل متروكًّا تمامًّا بدون أي محاولة للتدخل أو للتنظيم من الأمن أو من الدولة لمدة 47 يومًا، وأن خطة محاصرة الاعتصام، أو على الأقل محاولة إغلاق أغلب المداخل والمخارج بحيث لا يسمح لأعداد المعتصمين أن تتضخم إلى الحد الذي يجعل من محاولة فضه أو إنهائه أمرًا بهذه الصعوبة، كانت قد طرحت مرارًا، بل أنها كانت محل نقاش دائم في الوسائط الإعلامية في الأسابيع القليلة التي سبقت تنفيذ السيناريو النهائي- الذي فضل استعمال القوة- والذي أسفر عن هذه النتيجة.
وقد وجه التقرير اللوم إلى "الإدارة المصرية" بسبب "ترك بؤرة التجمع تتسع وتتحصن، وكان فضها في المهد أقل كلفة من فضها بعد 47 يومًا، وإن كان قد حال دون ذلك المحاولات المتكررة الساعية للفض والإخلاء السلمي وتدخل الوساطات الخارجية، ولكن كان يجب مع ذلك الحرص على عدم زيادة الأعداد ومساحة التجمع".
وفي خلاصة تقريرها النهائي المقدم للسيسي قالت اللجنة نصًا:""أما الإدارة المصرية فقد جانبها الصواب هي الأخرى في سياستها في فض التجمع".
ولعل هذا ما أشار إليه محمد البرادعي في نص استقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية فور وقوع مذبحة رابعة، حيث كتب: "وكما تعلمون فقد كنت أري أن هناك بدائل سلمية لفض هذا الاشتباك المجتمعي وكانت هناك حلول مطروحة ومقبولة لبدايات تقودنا إلي التوافق الوطني، ولكن الأمور سارت إلى ما سارت إليه…ولا أستطيع تحمل مسئولية قطرة واحدة من الدماء أمام الله ثم أمام ضميري ومواطني خاصة مع إيماني بأنه كان يمكن تجنب إراقتها".
كما أكد تقرير اللجنة مرة أخرى أن انحياز المسؤولين عن القرار إلي خيار استعمال القوة في فض الاعتصام لم يكن مبنيًا على ظن منهم بأن في الإمكان تنفيذ الفض دون خسائر بشرية.
فقد حصلت اللجنة القومية كذلك على إفادة من رئيس الوزراء حازم الببلاوي، ذكر فيها نصًا "أن عدد القتلى كان أقل مما هو متوقع"، وهو تصريح كان قد أدلى به في مقابلات إعلامية في وقت سابق، لكنه قدمه هنا للمرة الأولى في إفادة رسمية تثبت العلم المسبق للسلطات بحجم الخسائر المتوقع في حال اللجوء للقوة.
ففي حوار مع الببلاوي نشرته المصري اليوم في سبتمبر 2013، أي بعد أقل من شهر على فض الاعتصام، أجاب كالتالي:
"هل كانت التوقعات قبل فض الاعتصام أن يكون عدد الضحايا بالمئات أم أكثر أو أقل؟
- لقد أخذنا فى الاعتبار الاحتمال الأسوأ عند التعامل مع تلك الأحداث، فالمتوقع كان أكبر بكثير مما حدث فعليا على الأرض، النتيجة النهائية أقل من توقعاتنا."
ولم يقتصر دور الببلاوي على ترؤس اجتماع مجلس الوزراء في 31 يوليو 2013 والذي صدر عنه القرار النهائي بفض الاعتصام وتفويض وزير الداخلية في التنفيذ. بل إن هذا الاجتماع الحكومي جاء في أعقاب مشاركة الببلاوي يوم 27 يوليو في اجتماع مجلس الدفاع الوطني (الذي شغل عضويته كرئيس للوزراء إلى جانب وزراء الدفاع عبد الفتاح السيسي، والداخلية محمد إبراهيم، والخارجية نبيل فهمي، والمالية أحمد جلال، وقادة عسكريين وأمنيين في ذلك الوقت)
وهو الاجتماع الذي صدر عنه قرار إنهاء الاعتصام، كما حرص الببلاوي على زيارة قوات الأمن المركزي بنفسه في يوم 8 أغسطس بمعسكر الدراسة بالقاهرة الذي خرجت منه تلك القوات لفض الاعتصام بعد بضعة أيام من الزيارة.
وكانت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" قد شكلت وفدًا من الحقوقيين المصريين اجتمع بالببلاوي بمقر مجلس الوزراء مساء يوم 30 يوليو، أي في اليوم السابق على قرار مجلس الوزراء بفض الاعتصام، وفي حضور مسؤولين حكوميين آخرين، حيث أخطره الوفد بأن تقديرات أعداد المعتصمين في رابعة وتوثيق المؤسسات الحقوقية لأداء وزارة الداخلية في فض تجمعات سابقة أصغر حجمًا يدفعنا إلى التحذير من أن محاولة فض اعتصام ميدان رابعة بالقوة سينتج عنها عدد من القتلى قد يتراوح بين 700 و800 شخص ومئات الجرحى.
وفي اليوم التالي لهذا الاجتماع أصدرت 10 منظمات حقوقية مصرية بيانًا مشتركًا "بعد صدور قرار مجلس الوزراء في 31 يوليو باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للتعامل مع الاعتصامين في رابعة العدوية وميدان النهضة، وبيان وزارة الداخلية الصادر في 1 أغسطس بهذا الشأن"، حذرت فيه من تداعيات أي تدخل أمني أو تعامل شرطي، وشددت على الالتزام بالأدوات القانونية وبالمعايير الدولية في التعامل مع المظاهرات.
كما خذرت المنظمات من الاستخدام العشوائي للقوة والذي ينتج عنه سقوط العشرات من الضحايا الذين لا يشكلون أي تهديد بالخطر، ومن الاستخدام العمدي للأسلحة القاتلة في هذه الحالات والذي يعد في مصاف الجريمة الجنائية، ويشكل جريمة ضد الإنسانية يترتب عليها وقوع مسئولية جنائية دولية فردية ليس فقط على كل من شارك في عمليات القتل بل أيضا على المسئولين والقادة الذين كان يتحتم عليهم اتخاذ إجراءات واضحة لمنع وقوع تلك الجرائم.
ثالثًا- غالبية القتلى من المعتصمين السلميين:
في مساء 14 أغسطس 2013، وبعد انتهاء فض الاعتصام، أصدر مجلس الوزراء بيانًا جاء فيه: "تحيي الحكومة جهود قوات الأمن في تطبيق القانون فيما يخص فض اعتصامي رابعة والنهضة.
وتشيد بالتزام تلك القوات بأقصى درجات ضبط النفس والأداء الاحترافي العالي خلال عملية فض الاعتصام، وهو ما انعكس في انخفاض أعداد الإصابات في صفوف المعتصمين بالمقارنة بالأعداد المتواجدة على الأرض وحجم التسليح والعنف الموجه ضد هذه القوات"
لكن تقرير اللجنة القومية المستقلة لتقصي الحقائق يكذب الرواية الرسمية سواء حول كون أغلبية معتصمي رابعة من المسلحين أو حول كون أغلبية القتلى في رابعة من العناصر المسلحة التي بادرت بالاعتداء على قوات الفض. بل إن التقرير انتهى إلى نتيجة حذفت من الملخص الذي جرت الموافقة على نشره، ونصها: "كان العدد الأكبر من ضحايا رابعة من المدنيين الأبرياء الذين كانوا على الأرجح من المتظاهرين السلميين، أما من حملوا السلاح وروعوا المواطنين فقد تمكنوا من الهروب من ميدان رابعة"
تتفق هذه النتيجة مع ما توصلت إليه كافة التحقيقات الميدانية المستقلة بشأن رابعة، والتي كان قد صدر تقريران منها قبل انتهاء اللجنة القومية من عملها: الأول عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في يونيو 2014 بعنوان "أسابيع القتل"، والثاني عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في أغسطس 2014 بعنوان "حسب الخطة"
وتتفق النتيجة أيضًا مع القرائن الرسمية التي وردت في تقرير وزارة الداخلية نفسها عن عملية الفض، وفي تحقيقات النيابة العامة مع المعتصمين الناجين من القتل، وفي التقرير النهائي لمصلحة الطب الشرعي. وبالطبع فإن النتيجة تتفق كذلك مع المنطق في ضوء ما أشار إليه تقرير لجنة تقصي الحقائق بشأن عدم التناسب وإطلاق النار العشوائي واستبعاد بدائل الفض السلمية.
وطبقًا للوثائق الرسمية، لم تعثر قوات الفض ومصلحة الأدلة الجنائية ومن بعدها معاينة النيابة العامة لمكان الاعتصام سوى على تسع بندقيات آلية فقط.
أما قوات الأمن المركزي، سواء وحدات مكافحة الشغب أو الوحدات القتالية فإن قوام تسليحها الأساسي هو البندقية الآلية عيار 7.62*39 مم.
أي أنه سواء كان عدد المعتصمين يوم الفض يقترب من 180 ألفا (حسب هيئة المساحة) أو 20 ألفًا (حسب وزير الداخلية)، فإن النسبة الأغلب من 90% من القتلى والمصابين قد سقطوا بنوعية سلاح توافرت منه تسع قطع بين المعتصمين، بينما حملته كافة الوحدات القتالية لقوات العمليات الخاصة المشاركة في الفض.
رابعًا:"الممر الآمن" لم يكن ممرًا ولا آمنًا:
يظهر التقرير الرسمي بوضوح أن عملية تخصيص وتأمين ممر آمن لخروج المعتصمين الراغبين في المغادرة الطوعية قد فشلت سواء على مستوى التخطيط أو على مستوى التطبيق العملي، رغم دراسة القائمين على الخطة للسيناريوهات المتوقعة، وأن الممر لم يكن مفتوحًا ولا آمنًا لخروج المعتصمين على مدار أغلب اليوم، على الأقل من الساعة 7:45 صباحاً وحتى الثالثة مساء، وهو ما يشمل الساعات التي شهدت سقوط الغالبية الساحقة من مئات المعتصمين القتلى.
يقول الملخص التنفيذي المنشور: "طوقت قوات الشرطة مكان التجمع في السادسة صباحًا تقريبًا، وأعلنت عن ضرورة الإخلاء والخروج من الممر الآمن في طريق النصر باتجاه المنصة والممرات الفرعية الأخرى، والتأكيد على عدم ملاحقة الخارجين من هذه الممرات"
بينما انتقد التقرير النهائي غير المنشور "عجز هيئات إنفاذ القانون عن حماية ممرات الخروج الآمن من تعمد مسلحي المتجمعين العمل على إغلاقه ومثل هذا السلوك من جانبهم كان يتعين توقعه من جانب هيئة إنفاذ القانون والعمل على وضع الخطة المضادة له مسبقًا وليس وقت الفض حتى وإن كانت هناك ممرات أخرى قد لا يعرفها البعض، لأن إقفال هذه الممرات تحت أي ظرف معناه الموت للمتظاهر السلمي الذي كان يعتقد بحسن نية أنه يقوم بعمل مشروع وهو التظاهر السلمي".
وتحت عنوان "أخطاء الإدارة المصرية" أورد تقرير اللجنة: "التركيز على ممر واحد بصفة أساسية، وممرات فرعية لم يتم الإعلان عنها بمدة كافية أربك حسابات قوات الأمن والمتظاهرين، ولقد كان من الأولى وضع لوحات إرشادية ونشرها عن الممرات الآمنة الرئيسية والفرعية.
ولم تقتصر المأساة على عدم تمكن المعتصمين الراغبين في المغادرة من استخدام الممر الآمن تحت نيران الرصاص الحي، بل إن اللجنة وجدت أن عدد القتلى الكبير قد نجم أيضًا عن عدم إسعاف الجرحى، "بسبب عدم تمكن سيارات الإسعاف من الدخول إلى الميدان إلا بعد انتهاء عملية الفض والإخلاء في الساعة السادسة مساء يوم 14 أغسطس، وقد كان يتعين على هيئات إنفاذ القانون وضح خطة بديلة حال حدوث مثل هذه الظروف الطارئة".
ورغم أن عددًا من المعتصمين قد تمكن بالفعل من المغادرة في الصباح، وأن الآلاف منهم قد تمكنوا من الخروج بعد الخامسة مساءً، فإن الإفادات الموثقة في تقرير اللجنة القومية ذاته تظهر تعرض مواطنين وصحفيين للقبض العشوائي أثناء أو عقب استخدامهم للمخرج الآمن الرسمي، فضلًا عن تعرض بعضهم للضرب والاحتجاز من قبل سكان المنطقة ثم تسليمهم لسيارات الترحيلات. بل إن محضر تحريات قطاع الأمن الوطني نفسه الذي جرى تحريره بعد الفض جاء فيه نصًا: "أضافت المعلومات والتحريات بأنه قد أمكن تحديد بعض المتجمهرين الذين امتثلوا لتعليمات ونداءات القوات بمغادرة مكان التجمهر إلا أنهم لم يتمكنوا من المغادرة والخروج من الممر الآمن نظرًا لكثرة الأعداد وتدافع المتجمهرين".
خامسًا: الحاجة للجنة تحقيق قضائية:
في ضوء كافة الاستخلاصات والأدلة التي توصلت إليها اللجنة، وفي ضوء عدم منحها سلطة استدعاء مسؤولين في الدولة، وعدم تمكينها من الاطلاع على تحقيقات النيابة العامة في الوقائع الواردة ضمن نطاق عملها، وعدم تمكينها من الحصول على تسجيلات التصوير الجوي (رغم تأكيد الأوراق الرسمية على أن عملية الفض تم تسجيلها بالكامل عبر الطائرات)، وفي ضوء رفض قيادات وأعضاء الإخوان داخل وخارج مصر للتعاون معها، فقد انتهى تقرير اللجنة بتوصية رئيسية واحدة تلتها قائمة من عشرات التوصيات الأخرى، إلا أن كافة التوصيات الأخرى (والتي لا تزال دون تنفيذ بعد عشر سنوات) وردت في "الملخص التنفيذي" المنشور عام 2014، باستثناء هذه التوصية الرئيسية التي أدرجها أعضاء اللجنة بخط كبير وعريض وسطروا تحتها خطًا ثم سلموا التقرير للسيسي: "يجب إعادة فتح هذا الملف بواسطة لجنة مشكلة من قضاة تحقيق تأمر باستدعاء الشهود ممن عاصروا هذه الأحداث ومن المسؤولين، حتى يقف الجمهور على الحقيقة، وحفاظًا على وحدة الوطن، وعدم تحول هذا الانقسام السياسي إلى انقسام مجتمعي ينذر بالخطر على وحدة الدولة" وقالت: "إن هذا الجرح بكل ضحاياه في حاجة إلى أن يندمل."
لكن في وجود سلطة الانقلاب لا أمل في اندمال الجراح الغائرة التي خلفتها مذابخ رابعة والنهضة ومابعدهما.