حرب الوجود الرقمي.. البعد الآخر في معركة "الطوفان"
الخميس - 13 نوفمبر 2025
حنان عطية
"لم تعد السيوف والفرسان صالحة للمعارك".. صرّح بها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو في لقاء مع صُنّاع محتوى أمريكيين، حيث كشف عن استراتيجيته الجديدة في ما يسميه "حربَ الدفاع عن الوجود" لكيانه المغتصب لفلسطين.
قال السفاح الملوثة يداه بدماء الأبرياء في غزة: "ساحات القتال الحقيقية اليوم هي وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها تيك توك وإكس"، معبّراً عن نيته تجنيد المؤثرين وصُنّاع المحتوى في حرب الدعاية!
قالها بعد أن وجد نفسه منبوذاً عالمياً هو وكيانه الإرهابي، وظهر ذلك جلياً في واقعة اختصرت كل معاني الخطر الوجودي الذي ينتظر الصهيونية عالمياً، وهي واقعة لم تحدث منذ زُرع هذا الكيان الاستئصالي على أرض فلسطين، حيث غادرت وفود 77 دولة قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء كلمته التي ألقاها يوم 26 سبتمبر 2025، وهو ما وصفته القناة الـ14 بـ"البصقة في وجه دولتهم"، في حين قالت عنه صحيفة "يديعوت أحرونوت": "الاحتجاج الدراماتيكي".
تلك الواقعة كسرت بالفعل جموح السفاح النازي وجعلته يصطدم بحقيقة أن رواية غزة قد انتصرت على الرواية الصهيونية التي ظلت تتسيد الموقف لدى الرأي العام العالمي المؤثر، لا سيما في أوروبا وأمريكا على مدار عقود من الزمان.
ومن الواضح أن ترامب هو الآخر شعر بأنه تورّط في حرب تسير عكس المزاج العالمي، الذي بدأت روحه تتجه نحو الرواية الفلسطينية، عكس ما كان عليه الأمر في بداية حرب الإبادة على غزة، مما جعله يضغط في اتجاه وقف الحرب، على الأقل بصيغتها التي أصبحت تمثل خطراً ليس على الصهيونية وحدها، وإنما على داعميها في أمريكا وأوروبا والمنطقة العربية.
صُنّاع الحروب
من المؤكد أن هناك متغيرات كثيرة وقعت لدى الرأي العام العالمي بشأن الرواية الفلسطينية ما كان لها أن تحدث لولا أن الفضاء الإعلامي قد شهد متغيرات كبيرة قضت على تفرد الرواية الصهيونية التي كانت مدعومة بكل وسائل الدعم الأمريكي والغربي، وكذلك الضعف العربي الذي أصبح يسترق الميل تجاه المخطط الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية!
وقد أحدث الإعلام تغييراً كبيراً لدى الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، خاصة لدى جيل الشباب في الغرب، بل وداخل الكيان المحتل نفسه، ما ترك أثراً كبيراً في التحكم في مصير الحرب بعد أن ولغ الاحتلال -ومن ورائه الغرب- في دماء الأبرياء، وأرسلوا أطنان المتفجرات وأحدث ما أخرجته مصانعهم الحربية لتتم إبادة كل متحرك أو ساكن على أرض غزة، ظاهرها وباطنها.
في لقاء متلفز مع أحد الجنود الصهاينة العائدين من غزة قال إنه عند عودته إلى أسرته في إحدى الإجازات فوجئ بأن زوجته قد رفضت البقاء معه في البيت، وكذلك أطفاله الذين كانوا على نفس موقف أمهم، حيث أبلغوه أنهم لا يمكنهم أن يعيشوا مع وحش يقتل الأطفال والنساء دون رحمة، موضحاً أن العديد من رفاقه تعرضوا للموقف نفسه وقد أصبحوا مثله منبوذين من عائلاتهم بسبب ما ارتكبوه من جرائم بحق الأبرياء في غزة.
صناعة التحيّز
ورغم النجاحات التي حققها الإعلام الرقمي بشأن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وتقرير مصيرهم، إلا أن ذلك لا يعني أن الرواية الصهيونية باتت تستسلم أمام المتغير الجديد، فلم تمضِ ساعات على واقعة نبذ نتنياهو في قاعة الجمعية العامة، إلا وسمعنا عن إبرام الحكومة الصهيونية عقداً بقيمة 6 ملايين دولار مع شركة "كوك تاور" الأمريكية لإنتاج محتوى إعلامي يهدف للتأثير على نماذج الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي" لتبني روايات أكثر انحيازاً للكيان الصهيوني.
وبحسب موقع "ريسبونسبل ستيت كرافت" الأمريكي للأبحاث، فإن ما لا يقل عن 80% من المحتوى الذي ستنتجه الشركة سيكون مخصصاً لجمهور الشباب من "الجيل زد"، ليُطرح على منصات مثل تيك توك وإنستغرام والبودكاست ووسائط رقمية أخرى، بهدف تحقيق ما لا يقل عن 50 مليون ظهور شهرياً.
أيضاً سوف تستخدم شركة "كوك تاور" منصة الذكاء الاصطناعي "ماركن برو" المتخصصة في توجيه محركات البحث من أجل رفع ترتيب وانتشار الروايات المؤيدة للكيان الصهيوني في نتائج البحث على محركات مثل جوجل وبينغ.
كما ستقوم الشركة بدمج الرسائل المنحازة في شبكات وبرامج "مجموعة سالم"، وهي شبكة إعلامية مسيحية تنتج برامج شهيرة مثل "هيو هوويت" و"لاري إيلدر" و"الرؤية اليمينية" التي تقدمها لارا ترامب.
يستهدف هذا الجهد الإعلامي شريحة من الجمهور الأمريكي سجلت خلال الشهور الماضية تراجعاً واضحاً في دعمها للكيان الصهيوني، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة "جالوب" في يوليو الماضي أن 9% فقط من الأمريكيين في عمر 18 إلى 34 عاماً يؤيدون العدوان الإسرائيلي على غزة، كما أظهرت استطلاعات أخرى تراجعاً عاماً في النظرة الإيجابية تجاه الكيان الصهيوني.
تهديد وجودي
إن اعتراف مجرم الحرب بنيامين نتنياهو بأن حرب منصات التواصل الاجتماعي تمثل "تهديداً وجودياً" لكيانه اللقيط، واصفاً تهديدها بأنه "يفوق خطر الأسلحة التقليدية"، لم يكن مجرد ملاحظة عابرة، بل اعترافاً استراتيجياً عميقاً بضرورة إعادة تشكيل خريطة الصراع في العصر الرقمي.
وقد أشار تحديداً إلى منصّتي تيك توك وإكس، حيث تمثل تيك توك الجبهة الأمامية في معركة العواطف والقلوب، لتخترق مقاطع الفيديو القصيرة التي توثق المعاناة الإنسانية في المناطق الفلسطينية حواجز التعقيد السياسي وتتجاوز وساطة الإعلام التقليدي، وهي المقاطع التي يتم إنتاجها من هواتف عادية وتحظى بانتشار واسع، وتخلق رواية بديلة قائمة على المشاهدة المباشرة، مما يجعل الرواية الصهيونية الرسمية تبدو مجردة وبعيدة عن الواقع.
أما منصة إكس فتمثل ساحة المعركة الفكرية والسياسية، حيث تتحول التغريدات إلى عناوين إخبارية وتشكل الخطاب السياسي العالمي، إذ إن سرعة انتشار المعلومات على المنصة، مقترنة بتخفيف سياسات الرقابة تحت ملكية إيلون ماسك، جعلت من الصعب على الرواية الرسمية الصهيونية السيطرة على السردية.
الجيش الإلكتروني الصهيوني
في السياق ذاته، أطلق الكيان الصهيوني "جبهة التوعية" عبر الفضاء الافتراضي، فيما يُصطلح عليه بـ"جيش إسرائيل الإلكتروني"، لمحاربة ما يسمونه "الرواية الفلسطينية" والترويج للرواية الصهيونية.
وبحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن "جبهة التوعية" لا تقل أهمية عن ساحات القتال، ووصفتها بـ"المعركة على الوعي" لدورها في اختراق الفضاء الافتراضي وتأهيل الكوادر الإعلامية.
وتكشف الوثائق أن الصهيونية تعمل منذ سنوات على حشد وتجنيد مئات الكوادر الذين تم تأهيلهم في مراكز وجامعات صهيونية.
وتتخصص جامعة "رايخمان" في "مركز أبحاث الأمن القومي-هرتسليا" في تأهيل هؤلاء الكوادر من خلال مساقات دراسية في مواضيع الإعلام الدولي، وإنتاج المحتوى، والإعلام الإلكتروني؛ بهدف تمكينهم من "تزوير الحقائق وخلق روايات جديدة لا تمتّ للواقع بصلة".
وفقاً للتقارير، أجرت طواقم وزارة الخارجية الصهيونية، في الأسبوع الأول للحرب على غزة، جلسات إحاطة لـ250 مراسلاً أجنبياً، وأكثر من 640 مقابلة مع وسائل الإعلام الدولية بمختلف اللغات.
كما تم نشر نحو 1000 منشور وتغريدة باللغات الإنجليزية والإسبانية والعربية والفارسية والروسية، حصلت على أكثر من 320 مليون مشاهدة.
أيضاً ينشط مواطنون صهاينة ومتطوعون من يهود حول العالم في إنشاء عشرات المجموعات والمشاريع للمساعدة في التوعية الدولية، تُعرف إحداها باسم "المقر الدعائي المدني" الذي أنشأه الصحفي السابق إلياف باتيتو.
حرب الوجود الرقمي
تُظهر كل هذه التحركات الصهيونية القلقة أن المعركة الحقيقية انتقلت من أرض الميدان إلى الفضاء الرقمي، حيث أصبحت الصورة والتغريدة سلاحاً لا يقل فاعلية عن الأسلحة التقليدية في تشكيل الوعي العالمي وتغيير موازين القوى في الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني.
ومن اللافت للنظر أن الرواية التي يحاربها الحلف الصهيوني اليوم ليست رواية فلسطينية بحتة كما كانت في السابق، بل أصبحت رواية إنسانية عالمية، فمشاهد الأطفال تحت الأنقاض، والأسر التي تُباد، والجرحى الذين يموتون بسبب انعدام الرعاية الطبية، كلها مشاهد تتحدث بلغة عالمية يفهمها أي إنسان بغض النظر عن جنسيته أو خلفيته السياسية.
هذه الرواية الإنسانية اخترقت الحواجز القومية والسياسية التي كان التحالف الصهيوني يبنيها لعقود، فعندما يرى شاب في البرازيل أو اليابان أو جنوب أفريقيا هذه المشاهد، فإنه لا يستوعبها من خلال عداء تاريخي لليهودية كما تروّج الدعاية الصهيونية، بل من خلال إنسانيته.
هذا ما جعل أدوات الدبلوماسية التقليدية عاجزة عن مواجهته، إذ الثابت اليوم أننا بصدد تصاعد وتيرة حرب الروايات ليس على الشاشات التقليدية فقط، وإنما بشكل أكبر على مساحات "السوشيال ميديا" التي نقلت القضية الفلسطينية إلى العالمية والإنسانية بعد أن ضاق بها فضاؤها العربي المحدود نتيجة الضغوط الأمريكية والعمل على تفكيك المنطقة العربية واتباع سياسة التهميش لشعوب المنطقة والتنكيل بها!
اليوم، وفي ظل انحياز الحكام والجيوش العربية لسياسات الاحتلال، ما زال بإمكان الشعوب العربية وشعوب العالم الحر أن تخوض معركة جديدة يعتبرها العدو حرب وجود يستهدف بها جيل الشباب حول العالم، والذين بهم ومن خلالهم تتشكل ملامح مستقبل قضية الصراع الفلسطيني مع الصهيونية الاستعمارية.
