الاستعمار الناعم .. كيف تغزو الصين قلبَ القارة الأفريقية؟
الخميس - 28 أكتوبر 2021
- اعتمدت الصين لدخول القارة السمراء على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة.
- التجربة الصينية مع أفريقيا تؤصل لاستراتيجية القوة الناعمة " منافَسَة اقتصادية لها أبعاد عسكرية وأيدلوجية" .
- المثال الأبرز لرجال الصين في أفريقيا هو "إيمرسون ماناناغوا"، رئيس زيمبابوي القادم بانقلاب عسكري يُزعم تورُّط الصين فيه
كتبت : روضة علي
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
"الصين ليست مجرد لاعب كبير، بل هي أقوى لاعب في العالم"، هذا ما قاله "لي كوان يو" مؤسس سنغافورة الحديثة قبل وفاته.. والآن تُثبت الصين كل يوم مدى صدق هذه المقولة، ويقترب التنينُ الصيني من حلم الإمبراطورية.
وكانت أهم دعائم هذه الإمبراطورية الواعدة هي وضع يديها على مناطق خصبة وغنية بالموارد الطبيعية، ودخول أسواق استثمارية تَعِدُها بالهيمنة الاقتصادية، مناطق تكون موارد الطاقة بها وفيرة وشبه مجانية!
وكانت هذه هي القارة الأفريقية، التي صارت طريقًا مهمًا للعملاق الأسيوي الذي يحلم بتأسيس الإمبراطورية الصينية.. فكيف غزت الصين قلب القارة السمراء؟ وهل الصين قوة مستَعمِرة أم شريك نزيه؟ وما مستقبل العلاقات الصينية الأفريقية في ظل التنافس المحموم على القارة؟ هذا ما نتناوله في هذا التحقيق.
صداقة قديمة..
خلال الثلاثين عامًا الأولى بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949م، بدأت بكين بإقامة علاقات مع عدد كبير من الدول الأفريقية، وبحلول عام 1980م، أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الصين و45 دولة أفريقية. وتزامنت هذه الفترة مع وقت حاربت فيه الدول الأفريقية ضد القوى الاستعمارية من أجل استقلالها، وقد دعمتهم الصين وساعدتهم على تنمية اقتصادهم وتعزيز استقلالهم.
وفي غضون ذلك، أيدت العديد من الدول الأفريقية الصين في جهودها لاستعادة مقعدها القانوني في الأمم المتحدة، ففي أكتوبر 1971م، استعادت جمهورية الصين الشعبية مقعدها في الأمم المتحدة بأغلبية ساحقة، بمعدل 78 صوت بالموافقة، منها 26 صوتًا من قِبل الدول الأفريقية.
كما كانت قضية تايوان عاملًا رئيسيًا في العلاقات الثنائية بين الصين والدول الأفريقية، فلم تَكف بكين عن التأكيد مرارًا على مبدأ "صين واحدة"، وهو الشرط الأساسي لسياسية جمهورية الصين الشعبية؛ لإقامة وتطوير العلاقات مع أي دولة. وعلى أساسه قَطعَت العديد من الدول الأفريقية علاقاتها مع تايوان، وأقامت علاقات دبلوماسية مع بكين.
بالإضافة إلى هذا الدعم السياسي المتبادل، يكتسب التعاون الاقتصادي بين الصين وأفريقيا زخمًا منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عندما بدأت الصين عهد الإصلاح والانفتاح، فكانت البداية عندما قامت الصين بتمويل وبناء خط سكة حديد تنزانيا – زامبيا، في الفترة من 1970 إلى 1976م، الذي يمتد من دار السلام التنزانية إلى نيو كابيري مبوشي في وسط زامبيا، ويُنظر إليه على أنه نُصب تذكاري للصداقة بين الصين وأفريقيا.
وقد أدى إطلاق آلية "منتدى التعاون الصيني الأفريقي" في عام 2000م إلى تسريع التعاون في مختلف المجالات، ونما حجم التجارة بين الصين وأفريقيا من 765 مليون دولار في عام 1978م، إلى 170 مليار دولار في عام 2017م، بزيادة أكثر من 200 مرة.
فاستثمرت حوالي 3 آلاف شركة صينية في أفريقيا، في مشاريع النقل والكهرباء والاتصالات، والمجمعات الصناعية، ومراكز التكنولوجيا الزراعية، وإمدادات المياه والمدارس والمستشفيات.
وفي عام 2015م، أعلنت الصين عن 10 خطط رئيسية للتعاون الصيني الأفريقي لمساعدة القارة على تسريع التصنيع والتحديث الزراعي. وفي عام 2017م، تم افتتاح خط سكة حديد ممول من الصين لربط بلدتي نيروبي ومومباسا، مما أدى إلى تقليل وقت السفر بين أكبر مدينتين في كينيا بمقدار النصف، وخلق 46000 فرصة عمل.
علاوة على ذلك؛ يتشكل طريق الحرير الجديد، تحت مبادرة الحزام والطريق التي اقترحها الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013م، الذي يهدف إلى بناء شبكات التجارة والبنية التحتية التي تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، مما يضخ زخمًا جديدًا للتعاون الثنائي.
ماذا تريد الصين؟
إن إدراك الصين لأهمية القارة الأفريقية، ينبعُ من منطلقات اقتصادية، باعتبار أنها تعد من أكبر الأسواق الواعدة والصاعدة في العالم، ولمزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب المتواجدين في الساحة الأفريقية منذ أمد.
ارتبط نموذج العلاقات الصينية الأفريقية بنوع خاص من الاعتماد المتبادل على نوعين بعينهما من الاحتياجات؛ كانت الطاقة على رأس حاجات الصين الصاعدة في التسعينيات، وكانت البنية التحتية المُدمَّرة من أثر الحروب الأهلية وحروب التحرير ضمن الاحتياجات الرئيسة للقارة السمراء، ووجد كلاهما في الآخر وسيلة لتلبية حاجاته، ما جعل "المنفعة المتبادلة" هي أساس تلك العلاقات في بداياتها، كما تُكرِّر الصين دومًا.
يقول الأكاديمي الأفرووسطي المهتم بالشأن الإفريقي، محمد زكريا فضل، أن كثير من الدول الأفريقية تتمتع بموارد طبيعية هائلة تُعْتَبر مصدرًا أساسيًا للطاقة والصناعات التكنولوجية المتقدمة؛ ولكنها تفتقر إلى أدوات ومؤهلات تمكنها من استغلال تلك الموارد، بينما تمتلك الدول المتقدمة ومنها الصين تكنولوجيا حديثة؛ لكنها تفتقر إلى الموارد الطبيعية لتحقيق نموها والحفاظ على مستوى الرفاهية التي وصلت إليه، وهذا سر توجه أنظار الصين نحو القارة الأفريقية.
ويرى "فضل"، أن القارة الأفريقية تمثل للصين هدفًا استراتيجيًا لنهضتها وفرض سيطرتها على العالم أجمع، لأن الصين تَرى أفريقيا سوقًا استهلاكيًا واعدًا لشركاتها الإنتاجية والخدمية، فضلًا عن كونها مصدرًا للطاقة ومخزنًا لموارد طبيعية لا يمكن الاستغناء عنها، وكثير من القادة الأفارقة يرون أن الصين هي الشريك الذي لا يحمل طموحات استعمارية.
بينما يعتقد الأكاديمي والكاتب النيجيري المتخصص في الشأن الأفريقي، د. حكيم نجم الدين، أن الخطوات التي تتبعها الصين في أفريقيا تختلف وفق مكانة كل دولة أفريقية لدى الصين، لكن الصفة العامة لدوافعها بالقارة هو تنمية صناعاتها على الطاقة، وبالتالي هي بحاجة إلى مواد خام لأسواقها، وبحاجة إلى الدعم الأفريقي في المنظمات الدولية لخطواتها واستراتيجياتها، وخلق حلفاء من القارة لتعزيز المصالح الصينية ومواجهة الولايات المتحدة إذا تطلب الأمر ذلك.
تريد الصين من أفريقيا شريكًا دوليًا يُعتمد عليه، وتحتاج الموارد الأولية المتوفرة في أفريقيا وفي مقدمتها النفط، وتريد مجالًا أرحب لاستثمار فوائضها المالية الضخمة، وأسواقًا لكثير من منتجاتها، ولكنها لا تريد أن يكون لها وجود يحمل أي صفة استعمارية، وتحاول تصدير صورة الشريك الذي لا يفرض نفوذه وتوجهاته ومبادئه، ولهذا فإن الادعاءات الغربية بأن الصين تمارس استعمارًا جديدًا في أفريقيا، لم تفلح في أن تجد من يسمع لها في أفريقيا.
العملاق الأسيوي.. الاختراق الناجح
اعتمدت الصين لدخول القارة السمراء على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة، دون التدخل في شؤون الآخرين، ويتجلى ذلك في القروض الميسرة، والاستثمارات دون شروط، إضافة للمساعدات الجزيلة. ومنذ عام 2000م أصبحت الصين المنافس والشريك الذي يلي أمريكا وفرنسا في القارة الأفريقية، لما تتمتع به من قوة اقتصادية هائلة.
يقول الأكاديمي محمد زكريا فضل، أن العلاقات الصينية الأفريقية علاقات قديمة نسبيا، منذ مؤتمر بادونغ في إندونيسيا عام 1955م وما لحقه من فعاليات ولقاءات ثنائية متعددة الأغراض؛ التي لا زالت مستمرة حتى الآن، وعلى إثر ذلك قدمت الصين لكثير من الدول الأفريقية مساعدات غير مشروطة مدعومة، بخلاف المساعدات التي تقدمها الدول الغربية للقارة الأفريقية مثل برامج المساعدات الخارجية التي تقدمها أمريكا ضمن استراتيجيات محددة.
ويوضح "فضل" أن الاستراتيجية الغربية تتمثل في وضع شروط للمساعدات والقروض؛ لإخضاع الحكومات للأعراف الدولية المرتبطة بالحوكمة الرشيدة، واحترام حقوق الإنسان، والالتزام بمعايير البيئة العالمية وإرساء حكم القانون، ومكافحة الفساد، ويتم إيقاف هذه المساعدات عند الإخلال بشرط من الشروط.
بينما تشمل المساعدات التي تقدمها الصين للدول الأفريقية؛ مساعدات مادية وقروض غير مشروطة من أجل تنمية البنى التحتية، وتطوير الموارد البشرية، والرعاية الطبية، وتوجيه القطاع الخاص الصيني للاستثمار في الزراعة الأفريقية، فضلا عن التبادل التجاري والعلاقات الثنائية، بحسب "فضل".
كان تأثير بكين الأكبر في صورتها الإيجابية عن طريق مجموعة ضخمة من منح تعليمية للطلاب الأفارقة في الصين، وبحزمة من برامج تدريبية تمزج ما بين تدريب الساسة الشباب والمسؤولين الحكوميين وبين تحقيق أهداف بكين في نشر ثقافتها وتاريخها إلى قلب القارة السمراء.
كان الهدف الرئيس من نشأة برامج التدريب الصينية الدولية منذ السبعينيات، وخاصة لأجل السياسيين والعسكريين الأفارقة، هو تصدير مبادئ الثورة الصينية الشيوعية للعالم، ويمكن القول إن بكين لم تعد بحاجة إلى تخصيص برامج التدريب للدعاية لنفسها في أفريقيا، بل أصبحت تكتفي بإبهار القادمين من دولهم النامية بكل ما حقَّقته من تقدُّم صناعي وتكنولوجي وطفرة اقتصادية لا يُدرك الزائرون طريقا للوصول إليها إلا باتباع طريق الصين المفتوح على مصراعيه.
لكن لم تمنع هذه الحقيقة بكين من مواصلة الاستثمار في تربية العناصر السياسية الشابة في الدول المقصودة ورعايتهم، بما يمنحهم بعد ذلك فرصة لأن يُصبحوا هم أنفسهم قادة هذه الدول في يوم من الأيام.
ويُعَدُّ المثال الأبرز حاليا لرجال الصين في أفريقيا هو "إيمرسون ماناناغوا"، رئيس زيمبابوي القادم بانقلاب عسكري يُزعم تورُّط الصين فيه، إثر زيارة للصين قام بها القائد العام للجيش الوطني الزيمبابويّ، الجنرال "كونستانتينو شيوينغا"، قبل أيام فقط من الانقلاب، ويُعتقد أنه نال فيها موافقة الصين على التحرُّك للإطاحة بالرئيس الراحل روبرت موغابي.
صداقة طويلة تربط قائد الجيش الزيمبابوي بالرئيس الحالي ونائب الرئيس الأسبق ماناناغوا، لكن الأخير كان قد نال تدريباته العسكرية في الصين خلال الحرب الأهلية في زيمبابوي في الستينيات، وعاد بعدها لارتكاب جرائم قتل وتعذيب ضد الآلاف من أبناء وطنه خلال الحرب.
مستَعمِر أم شريك.. علامات استفهام كبيرة
تَعتَبر الولايات المتحدة والغرب عامة علاقة الصين بأفريقيا شكلًا جديدًا من أشكال استعمار؛ طالما استغلَّت فيه الصين موارد أفريقيا من المعادن والطاقة لصالح دفع نموها الاقتصادي بطريقة أسرع.
بينما ترى الصين أنها علاقة فوز متبادل لكلا الطرفين، ففي حين تنال الصين ما تحتاج إليه من المعادن وموارد الطاقة، تنال أفريقيا مليارات الدولارات في شكل قروض ومشاريع تنموية وبنية تحتية واستثمارات تدفعها نحو تحقيق نموها الذاتي المتأخر منذ زمن طويل.
وبين الاتهامات الموجهة للصين باستعمار أفريقيا، ودفاع الصين عن نفسها بأنها شريك في القارة، لم تكن أفريقيا بحاجة إلى مَن يُخبرها بالبقاء بعيدًا عن الاستثمار مع الصين، ليس فقط للمنافع التي حصَّلتها بالفعل خلال السنوات الماضية، بل لأن الصين -وعلى عكس الغرب- لم تكن تُخبر أفريقيا بما تحتاج إليه، بل تلتزم بسياسات متبادلة من عدم التدخُّل مقابل الاكتفاء بالمنافع الاقتصادية القائمة بالفعل.
في هذا الصدد يرى الأكاديمي محمد زكريا فضل، أنه رغم إعراب القوى الغربية عن قلقها من استغلال الصين للدول الأفريقية لتحقيق مصالح شخصية ومكاسب سياسية على حساب العلاقات المعلنة، فإن الصين تنفي هذه الاتهامات وتتعمد أن تُظهر نفسها دائمًا بالشريك الاستراتيجي للقارة، ويضيف "فضل" أن العلاقات الصينية الأفريقية تعتمد على مبدأ الشراكة وإن لم تكن كفتا التعاون متساويتين، إلا أنها تبدو أفضل من علاقات القارة الأفريقية مع حلفائها التاريخيين.
في حين قال الأكاديمي النيجيري د. حكيم نجم الدين، أنه لا يمكن الجزم بأن الصين لها دوافع استعمارية؛ لأن بعض الدول الأفريقية قد تمكّنت من استثمار علاقتها مع الصين لصالحها من حيث البنى التحتية ورفع كفاءتها، بينما هناك دول أخرى وجدت نفسها أمام ديون متراكمة دون عوائد ملحوظة للمصلحة العامة.
وأضاف "نجم الدين" أن هناك الكثيرون ينظرون إلى علاقة الصين ببلادهم أنها علاقة مثمرة ولو نسبيًا، لما نتج عنها من شبكات طرق جديدة، ومطارات وسكك حديدية وغيرها من المشاريع، التي ترجح كفة الصين على غيرها بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
رغم علاقة الشراكة التي تحتفي بها الصين مع أفريقيا، إلا أن أصابع الاتهام توجه إلى بكين في عدة ملفات، تجعل علاقتها بأفريقيا محاطة بعلامات استفهام، أحد هذه الانتقادات يتمثل في التدريبات السياسية المجانية التي تمنحها الصين لرجالها الأفارقة؛ مَن يُصبحون فيما بعد أعمدة لاستثماراتها. كما أن استثماراتها تأتي على الأغلب في صورة تعاقدات حكومية تُحيطها السرية، ما يعني انعدام القدرة على احتساب حجم المزايا والفائدة المفترض حدوثها من عدمه.
ويأتي انتقاد آخر؛ هو أن الاستثمارات الصينية غالبًا ما تأتي بعمالة صينية كاملة للعمل في مشاريعها والإشراف المباشر عليها، ما يعني ندرة فرص العمل المحلية التي تُوفِّرها هذه الاستثمارات للأفارقة. أما الانتقاد الثالث فيدور حول كون الحكومات الأفريقية هي المستفيد الأكبر من مشاريع الصين غير المُعلَنة، نتيجة لحجم الفساد المُتضخِّم بالقارة.
كما توجهت اتهامات لبكين بإقامة علاقات قوية مع الدول الغنية بموارد الطاقة دونًا عن بقية أنحاء القارة، مثل زيمبابوي والكونغو ونيجيريا وجنوب السودان، ورغم دفاع بكين عن نفسها عمليًا؛ بإقامة علاقات مع إثيوبيا وكينيا وأوغندا وقائمة طويلة أخرى من دول تُعَدُّ فقيرة، فإن هذا لم يمنع استمرار الاتهامات للصين بإساءة استغلال علاقاتها الأفريقية.
إلى أين...؟
رغم العلاقة الجيدة بين الصين وأفريقيا إلا أن الأمر لا يخلو من المخاوف والشكوك التي تحيط بهذه العلاقة، وتبرز عدة سيناريوهات مستقبلية للعلاقات الصينية الأفريقية.
يأتي السيناريو الأول بازدهار العلاقات الصينية الأفريقية، حيث تتميز الصين بأنها تنتهج استراتيجية مسالمة على المستوى الدولي؛ فمن أهدافها الأساسية صيانة السلم والأمن الدوليين، وتعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة، وتهدف الصين بشكل أساسي لجعل العالم متعدِّد الأقطاب بدلاً من هيمنة القطب الأوحد على العالم. وبناءً عليه فإن من المرجح أن تكون العلاقة في تطوُّر مستمر.
أما السيناريو الثاني، فهو تعقُّد العلاقة بين الصين والقارة السمراء، فرغم التعاون بين الصين وأفريقيا في شتَّى المجالات؛ إلا أن هناك بعض المخاوف التي تساور عقول الأفارقة بأنه من الممكن أن يكون فخًّا للديون، وتضطر الدول الأفريقية فيما بعد للتخلي عن سيادتها أو جزء منها للدولة الصينية.
وذلك مثل ما حدث مع دولة سريلانكا؛ حيث كانت الدولة الصينية خير داعم لها بعد انتهاء الحرب الأهلية بها، لكي تتمكن من إعادة بناء البنية التحتية الخاصة بها، لكن عانت الدولة بعد ذلك من تفاقم الديون الخارجية ولم تستطع تسديدها، لذلك اضطرت للتخلي عن جزء من سيادتها، وتخلت عن ميناء "هامبانتوتا". ونظرًا لهذا القلق الأفريقي من الصين، يمكن أن يحدث تراجع للعلاقات الصينية الأفريقية مستقبلاً.
يعتقد الأكاديمي محمد زكريا فضل، أن النهج الغربي في إرساء العلاقات مع الدول الأفريقية المتّبع حاليا بجميع أشكاله؛ يدفع بكثير من دول القارة إلى الارتماء في أحضان الصين وغيرها من الدول الكبرى التي تقدم نموذجًا مختلفًا.
وبناءً عليه يرى "فضل" أن العلاقات بين الصين والدول الأفريقية ستشهد تطورات إيجابية في ظل التنافس القوي بين الصين وأمريكا؛ لأن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أصبح يجتذب الكثير من القادة السياسيين، خاصة الجيل الناشئ الذي أصبح يفكر في الشريك الاستراتيجي البديل للنموذج الغربي السائد.
ويؤكد "فضل" أن التوغل المتسارع للصين في أكثر من دولة أفريقية، والانتشار الصّامت في القطاعات الحيوية والحساسة مثل مناجم الطاقة والمعادن الثمينة، بالإضافة إلى الانخراط في مشاريع البنى التحتية، هذا كله يتيح للصين أن تقوي علاقاتها مع صناع القرار.
ويتوقع د. حكيم نجم الدين، أن العلاقة بين الصين وأفريقيا لن تشهد تراجعًا في الوقت الحالي لعدة اعتبارات؛ إذ لمحتْ الصين في الأشهر الأخيرة أن حاجتها للمواد الخام في تزايد، رغم تراجع حاجتها للنفط من بعض الدول الأفريقية بسبب تداعيات كورونا، ويضيف "نجم الدين" أنه من الملاحظ أن الصين تستثمر فجوة لقاحات كورونا لصالحها بتوفير نسبة من اللقاحات لمختلف دول القارة عندما أدبرت أوروبا ظهرها عنها، وهناك توقعات بأن تصبح الصين المصدر الرئيسي للقاحات للدول الأفريقية.
ويذهب "نجم الدين" إلى أن آخر التطورات في أفغانستان قد تكون فرصة للصين للتسويق عن نفسها، في النسخة القادمة من قمة الصين وأفريقيا، كحليف موثوق أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤكد "نجم الدين" أن عام 2021م سيشهد توطيد العلاقات بين أفريقيا والصين، رغم قصور هذه العلاقة وتحدياتها، وهي ليست أفضل الخيارات ولكنها حتى الآن تقدّم نتائج ملموسة ومرئية أكثر من غيرها.
وختامًا فإن التجربة الصينية مع أفريقيا تؤصل لاستراتيجية القوة الناعمة، فالصين لا تملك أهدافًا اقتصادية بحته، بل هي منافَسَة اقتصادية لها أبعاد عسكرية وأيدلوجية، تتبناها الصين الشيوعية، وتنفذها بذكاء وصمت.. فكما قال المُنَظِر العسكري الصيني الشهير، صن تزو: "خوض مئة حرب ليس بالقرار الحكيم، حتى لو انتصرت فيها جميعًا، لكن الحكمة تكمن في كسر مقاومة العدو دون قتال".
فهل تنجح هذه الاستراتيجية وتنقلب موازين القوى؟
\