شريك الدّم في "رابعة".. هكذا قلب الإعلام حقائق المجزرة وبرّأ القتلة
السبت - 9 آغسطس 2025
- الإعلام المصري مهّد لعمليات القتل الجماعي قبل الفض وبرأ القتلة من دم المعتصمين
- شارك بشكل أساسي في مجزرة "رابعة".. أشعل نيران الفتنة وغذّى حالة الاستقطاب
- سردية الإعلام حول اعتصام "رابعة" ارتكزت على ضرورة "الفض" و شيطنة المعتصمين
- وسائل إعلام خليجية روجت السردية المصرية حول "الفض" بهدف تسويقها أمام العالم
إنسان للإعلام- تقرير:
في فجر الرابع عشر من أغسطس 2013م، سالت دماء المصريين في واحدة من أبشع اللحظات دموية في تاريخ البلاد الحديث، حين اقتحمت قوات الأمن المصرية اعتصام رابعة العدوية الذي ضمّ عشرات الآلاف من الرافضين للانقلاب العسكري.
وخلال ساعات قليلة تحوّل الميدان إلى مسرح مفتوح للموت، وسقط مئات القتلى والجرحى، في ما وصفته منظمات حقوقية دولية بأنه "مجزرة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية".
لكن بدلًا من كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة، انطلقت ماكينة الإعلام المحلي في حملة ممنهجة لطمس معالم الجريمة، وترويج رواية رسمية مضللة تزعم أن الاقتحام كان ضرورة لإنقاذ البلاد من حرب أهلية.
وفي الوقت نفسه، جرى تشويه صورة الضحايا وشيطنتهم أمام الرأي العام، وتحويل المجرمين إلى "منقذين"، والضحايا إلى "خطر يجب التخلص منه".
هذا التقرير يفتح ملف الدور الإعلامي المشبوه في التغطية على مجزرة رابعة، وكيف تحوّل الإعلام المصري إلى شريك في الجريمة، يسهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب وتضليل الوعي الجمعي، على مدى أكثر من اثني عشر عامًا.
مجازر غير مسبوقة
تُعد مجزرة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، في 14 أغسطس 2013م، أكبر جريمة قتل جماعي في التاريخ المصري الحديث، من حيث حجم الضحايا ودرجة الوحشية، وما ترتب عليها من تداعيات سياسية واجتماعية عميقة.
نفذت قوات الأمن والجيش، بقيادة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي، عملية الفض مستخدمة قوات الأمن المركزي، والمدرعات، والقناصة، والذخيرة الحية، ووفق تقديرات منظمات حقوقية وشهادات ميدانية، تراوح عدد القتلى بين 1300 و3000، فيما تعذر حصر الرقم الدقيق بسبب حرق الجثث وإتلاف الأدلة، كما أُصيب آلاف الأشخاص، واعتُقل الآلاف في يوم واحد.
عقب المجزرة، شن النظام حملة قمع هي الأوسع في تاريخ مصر الحديث، شملت اعتقال عشرات الآلاف، وإصدار أحكام قاسية بحق قيادات معارضة، إلى جانب تنفيذ إعدامات في محاكمات وُصفت بأنها مسيّسة.
وقد أظهرت أحداث رابعة كيف يمكن قمع احتجاجات شعبية واسعة باستخدام القوة المفرطة، دون مساءلة أو محاسبة، وسط تعتيم إعلامي شامل على الجناة، وحملة منظمة لتبرئتهم.
ورغم مرور أكثر من عقد، ما تزال "رابعة" حاضرة في الذاكرة كرمز للمقاومة والنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه كتذكير مأساوي بالتكلفة الباهظة لهذا النضال.
أما الصمت الدولي إزاء هذه الجريمة، فقد بعث برسالة مفادها أن الإفراط في العنف لا يستتبع بالضرورة عزلة أو عقوبات دولية، وهو ما شجع أنظمة أخرى في المنطقة على اتباع النهج نفسه.
لقد تركت مذبحة رابعة أثرًا عميقًا لا يُمحى على مصر والمنطقة؛ إذ عززت قبضة المؤسسة العسكرية على الحكم، وعمقت الانقسامات الاجتماعية، وكرست القمع السياسي، وأسهمت في تسارع التدهور الاقتصادي، لتفقد مصر كثيرًا من دورها الإقليمي ومكانتها الدولية.
وكانت هذه المجزرة بمثابة نقطة الانطلاق لسلسلة من الانتهاكات والجرائم التي استمرت حتى اليوم، بشكل مباشر أو غير مباشر[1].
بدورها، أكدت منظمة العفو الدولية أن الإفلات من العقاب لا يزال قائمًا رغم مرور سنوات على المجزرة، مشيرة إلى أن ذلك "يذكي أزمة غير مسبوقة في مجال حقوق الإنسان".
وأضافت المنظمة أن "مجزرة رابعة شكّلت نقطة تحوّل مروعة في مسار حقوق الإنسان في مصر".[2]
بعد مجزرة رابعة، واصلت الآلة العسكرية إراقة دماء المصريين، وسط موجة تبرير إعلامي مضلل للرأي العام، ففي 16 أغسطس 2013م وقعت مجزرة رمسيس الثانية وأحداث مسجد الفتح، التي أسفرت عن استشهاد 103 أشخاص.
وبعدها بيومين، في 18 أغسطس، شهدت مصر مجزرة "عربة ترحيلات سجن أبو زعبل" التي راح ضحيتها 37 شهيدًا.
وفي 6 أكتوبر من العام نفسه، ارتُكبت مجزرة جديدة أودت بحياة 51 مصريًا، في رسالة واضحة تعكس تحوّل عقيدة المؤسسة العسكرية من مواجهة العدو الخارجي إلى استهداف الشعب نفسه.[3]
تبرير القتل الجماعي
كان الإعلام شريكًا أصيلًا في كل الجرائم التي ارتُكبت بحق المعتصمين السلميين، وبدأ هذا الدور قبل الانقلاب العسكري بأشهر، حين أشعل نار الفتنة، وأذكى الاستقطاب السياسي، ومارس عملية ممنهجة لشيطنة كل من رفض الانصياع لمخطط جنرالات الجيش للانقلاب على المسار الديمقراطي.
وقبيل مجزرة الفض، مهّد الإعلام الرأي العام عبر حملة شائعات ممنهجة استهدفت تشويه صورة الاعتصام والمعتصمين، والقضاء على أي تعاطف شعبي معهم، لترسيخ صورة ذهنية تُظهر أن الفضّ بات ضرورة – أو على الأقل مبررًا – حتى وإن أُزهقت أرواح كثيرة.
في البداية، روّجت الصحف لقصص عن رغبة عدد من المعتصمين في مغادرة ميدان رابعة العدوية، وأن قيادة الاعتصام تمنعهم بالقوة، مع مزاعم عن هروب البعض كلما سنحت الفرصة.
وفي سياق شيطنة المعتصمين وتبرئة الجنرالات من دماء الأبرياء، نشرت وسائل إعلام روايات تزعم أن المعتصمين أحضروا أطفال الملاجئ ودور الأيتام إلى الميدان.
كما بثت وسائل الإعلام شائعات لتخويف المصريين من الانضمام للاعتصام، منها مزاعم عن انتشار أمراض معدية بين المعتصمين، وادعى الإعلامي إبراهيم عيسى أن مرض "الجرب" ينتشر بينهم.
وشارك الإعلامي محمد الغيطي، عبر قناة "التحرير"، في التشويه بادعاء وجود علاقات جنسية بين المعتصمين وسيدات سوريات تحت مسمى "نكاح الجهاد"، وهو مفهوم لا أصل له في الإسلام، مستندًا إلى شائعة أخرى مرتبطة بالثورة السورية.
وفي سبتمبر/أيلول 2013، عاد مصطلح "جهاد النكاح" للواجهة مع بث فيديوهات لشهادات مزعومة وجداول مكتوبة بخط اليد، عُرضت عبر قناة "الجديد" اللبنانية الموالية للنظام السوري، تزعم مشاركة نساء في هذا النشاط بسوريا.
تناولت الإعلامية رانيا بدوي هذه المزاعم عبر قناة "التحرير" باعتبارها حقائق، وربطتها باعتصام رابعة، رغم غياب أي دليل موثق. (حُذف الفيديو لاحقًا من يوتيوب، لكنها كررت الادعاءات عام 2014).
وفي إطار الترويج لاستخدام القوة في الفض، نشرت جريدة "الأخبار" في 6 أغسطس/آب 2013 عنوانًا رئيسيًا على صفحتها الأولى يزعم أن المعتصمين في "رابعة" و"النهضة" يمتلكون أسلحة كيميائية.
وسارت جريدة "الوطن" على النهج نفسه، مدعية أن جماعة الإخوان نقلت أسلحة كيميائية وصواريخ من سوريا إلى ميادين الاعتصام لاستهداف مواقع الجيش، مطالبة القوات المسلحة بسرعة الإجهاز عليهم قبل تنفيذ ما وصفته بـ"المخطط".[4]
أما جريدة "الشروق" فقد نشرت، في التاريخ نفسه، وعلى صفحتها الأولى، خبرًا منسوبًا إلى مصادر مجهولة بعنوان: "رصد أسلحة ثقيلة في اعتصام الإخوان يؤخر فضّه". وزعمت أن تأخر عملية الفض يعود إلى إعلان المعتصمين تشكيل "مجلس حرب" ضد الجيش والشرطة، وأنهم يمتلكون أسلحة ثقيلة وأوتوماتيكية وكلاشينكوف وحتى صواريخ.
وقد استندت هذه المزاعم إلى فيديو مفبرك، لكن وزير خارجية الانقلاب استغله للإدلاء بتصريح نسب فيه المعلومة إلى منظمة العفو الدولية، التي سارعت إلى نفيها، ما اضطره لاحقًا إلى تقديم اعتذار.
وفي سياق الانحراف الإعلامي، روّجت وسائل إعلام لروايات عن منصة ميدان رابعة، من أبرزها ادعاءات بتعذيب وقتل أشخاص ودفنهم أسفل المنصة، كما دأب الإعلامي أحمد موسى، عبر قناة "صدى البلد"، على مهاجمة الإسلاميين ووصمهم بالإرهاب والتطرف، مستضيفًا خصوم جماعة الإخوان، خصوصًا من الضباط السابقين والحاليين في جهاز أمن الدولة ووزارة الداخلية.
وفي إحدى حلقاته، ادعى موسى أن "الإخوان قاموا بدفن قتلاهم في كرة أرضية أسفل ميدان رابعة العدوية".
أما الإعلامية لميس الحديدي، التي لمع نجمها في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك وعُرفت بدورها في حملة التمهيد لتوريث الحكم لنجله جمال، فقد خُصص لها برنامج طويل على إحدى القنوات الخاصة استُخدم لترويج كل ما من شأنه "شيطنة" جماعة الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي، عبر نشر أخبار وتقارير ملفقة منسوبة إلى مصادر مجهولة لتحقيق هذا الهدف[5].
ولترسيخ صورة الإرهاب في الذهنية العامة عن اعتصام رابعة والمعتصمين، واصل الإعلام المصري على مدار العقد الماضي متابعة المحاكمات الهزلية لمعتقلي رابعة وقيادات جماعة الإخوان، بهدف تثبيت تهم الإرهاب عليهم، واتهامهم بتعريض حياة المواطنين للخطر، وقتل أفراد من الشرطة والجيش أثناء فض الاعتصامين، في الوقت الذي جرى فيه تبرئة القتلة الفعليين.
ولتحقيق هذا الهدف، لجأت منظومة الانقلاب الإعلامية إلى نسج روايات مليئة بالافتراءات والشبهات على أعلى درجات التشويه والغرابة، بغية التأثير على الرأي العام، وبناء صورة ذهنية تمهّد لقبول أي إجراء بحق الضحايا.
وساعدها في ذلك جهاز إعلامي محترف في الكذب والتدليس، سخّر برامجه الحوارية الموجّهة لمختلف شرائح المجتمع، فضلًا عن المسلسلات والأفلام المؤدلجة، لشيطنة الثوار والمعارضة ووصمهم بالإرهاب والتخريب، في محاولة ممنهجة للتلاعب بعقول الشباب والصغار والكبار على حد سواء[6].
معالجات إعلامية تحريضية
وفي هذا الإطار، هاجم إعلاميون وصحف بارزة رمز "رابعة"، واعتبروا أنه رمز غير مصري، في محاولة لقطع أي تعاطف إنساني مع ضحايا المجزرة، ففي 6 سبتمبر/أيلول 2013، نشرت جريدة "الأهرام" ما وصفته بـ"تحقيق صحفي" زعمت فيه أن الرمز ماسوني ويستخدمه عبدة الشيطان في طقوسهم، مدعية أن أعضاء في الكنيست "الإسرائيلي" رفعوا أيديهم به.
أما جريدة "الأخبار"، فقد ذهبت أبعد من ذلك حين نشرت، في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2013، خبرًا يزعم أن "إسرائيل" أطلقت اسم "رابعة العدوية" على شارع في القدس تضامنًا مع الإخوان، رغم أن الشارع يحمل هذا الاسم منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وعقب عملية الفض مباشرة، خرجت معظم الصحف المصرية بعناوين احتفالية وتحريضية، من قبيل: "حرق مصر... معركة الجماعة الأخيرة" (الشروق)، و"معركة المصير.. الدولة أو الجماعة" (المصري اليوم)، و"مصر تواجه الإخوان الإرهابيين" (التحرير)، و"الإخوان يحرقون مصر" (الوطن)، و"وانزاح كابوس الإخوان" (الأخبار الحكومية)، و"مصر تستعيد هيبتها" (الوفد).
وفي كل ذكرى لفض الاعتصام، تعيد الصحف والشاشات إنتاج الخطاب نفسه، تحت عناوين من نوع: "لا تنسَ إرهاب الإخوان"، و"موسم أكاذيب رابعة"، و"سبوبة ذكرى رابعة"، كما لا تتوانى وسائل الإعلام عن نشر تصريحات منسوبة لأعضاء في مجلس النواب وخبراء أمنيين، يمجدون قرار الفض ويصفونه بالحاسم، مستخدمين عناوين مثل: "حسم النظام برئاسة السيسي" و"استعادة هيبة الدولة والحرب على الإرهاب"[7].
تحليل للسردية الإعلامية
وفي سياق التعتيم على الحقائق، واستبدالها بسردية النظام الانقلابي، بهدف تضليل الوعي الجماهيري وتغييب الذاكرة الجمعية، تخلّى الإعلام عن كل المعايير المهنية من مصداقية وتجرد وشفافية واستقلالية، وانغمس في الرواية الرسمية دون الاقتراب من الواقع أو التطرق للجرائم التي ارتُكبت بحق المعتصمين السلميين، متجردًا من أي مسؤولية أخلاقية أو إنسانية، بل متورطًا في تبرئة القاتل واتهام الضحية.
وارتكزت السردية التي نسجها على ثلاثة محاور رئيسية: تبرير ضرورة الفض، شيطنة المعتصمين عبر الأكاذيب، وتبرئة النظام من دمائهم.
ولتعزيز هذه السردية، اختلق الإعلام سلسلة من المزاعم، منها: "جهاد النكاح" وتجنيد فتيات سوريات له، تعذيب المواطنين داخل الاعتصام، استخدام أطفال الملاجئ ودور الأيتام، وجود أسلحة كيميائية في الميدان، حفر أنفاق تصل إلى غزة، التعاون مع مخابرات أجنبية، قتل المعتصمين بعضهم بعضًا، ودفنهم تحت المنصة.
هذه الرواية لم تقتصر على الداخل المصري، بل جرى الترويج لها عبر وسائل إعلام خليجية، خصوصًا في الإمارات والسعودية، لتسويقها أمام الرأي العام العالمي.
وبين عامي 2013 و2015، كثّفت وسائل الإعلام المصرية حملاتها لترسيخ هذه السردية، ثم عادت لتذكير الجمهور بها سنويًا في ذكرى الفض، حتى أُدرجت مضامينها داخل المناهج التعليمية لتزييف وعي الأجيال القادمة.
كما ركزت المعالجات الإعلامية على تصوير الاعتصام بأنه "مسلح" لتبرير القتل الجماعي، وضخّمت أعداد قتلى الجيش والشرطة، مقابل تعتيم تام على أعداد الشهداء من المعتصمين.
واستُخدمت الأعمال الدرامية، مثل مسلسل "الاختيار" عام 2021، لإحياء الأكاذيب الأمنية حول المجزرة.
وفي مواجهة الإعلام المستقل والمعارض الذي كشف الحقائق، جنّدت السلطة كل أدواتها الإعلامية لشن حملات مضادة سنوية، وأقصت الكتّاب المستقلين لصالح المروّجين للسردية الرسمية، تحت إشراف وتوجيهات سيادية واضحة انعكست في العناوين الموحدة ونوعية الموضوعات المطروحة في الصحف وبرامج "التوك شو".
كما فرضت هذه الوسائل تعتيمًا كاملًا على التقارير الحقوقية الدولية والمحلية التي وثّقت المجزرة، وذهبت في بعض الحالات إلى مهاجمة المنظمات التي كشفت جرائم القتل المتعمد.
وبذلك، كشف ملف فض رابعة عن انهيار الإعلام المصري في عهد السيسي، وفقدانه لمساحات الحرية، وتحوله من سلطة رقابية إلى أداة تابعة للسلطة، غارقة في تضليل الرأي العام وخدمة أجندة القمع.
فضح السردية الإعلامية
بخلاف جهود بعض القنوات الفضائية المصرية في الخارج والمواقع الإخبارية المستقلة التي نجحت في نشر الوعي وكشف الحقائق، برزت مجموعة من الأفلام الوثائقية التي أرّخت لمجزرة فض اعتصام رابعة ونقلت صورتها الحقيقية، مظهرة من هم القتلة ومن هم المعتصمون السلميون.
من بين هذه الأعمال، فيلم وثائقي عُرض في أغسطس 2023 تحت إشراف مؤسسة "إيجبت ووتش" التي تتخذ من لندن مقرًا لها، بعنوان "ذكريات مذبحة"، وهو أول إنتاج من نوعه عالميًا باللغة الإنجليزية يوثق أحداث المجزرة التي ارتكبها الجيش المصري خلال فض الاعتصام.
عُرض الفيلم في قاعة الأكاديمية البريطانية للأفلام وفنون التلفزيون (BAFTA)، وضم شهادات حصرية لعدد من الناجين وشهود العيان، بينهم كريج سامرز، رئيس الأمن السابق في قناة "سكاي نيوز" البريطانية، والمصور مصعب الشامي من وكالة "أسوشيتد برس"، وديفيد كيركباتريك مدير مكتب "نيويورك تايمز" بالقاهرة آنذاك، إضافة إلى آخرين عايشوا المجزرة.
استقطب الفيلم عشرات الحاضرين من أبناء الجالية المصرية والعربية، إلى جانب بريطانيين مهتمين بشؤون الشرق الأوسط، ورافق العرض ندوة حوارية موسعة نظمتها "إيجبت ووتش"، شارك فيها النائب البريطاني كريسبن بلانت، والصحفي بيتر أوبورن، وأستاذة العلوم السياسية بجامعة "لونغ آيلاند" الدكتورة داليا فهمي، والباحث في "هيومن رايتس ووتش" عمرو مجدي، والصحفي خالد شلبي من موقع "ميدل إيست آي"، الذي أكد أنه كان شاهد عيان على أحداث رابعة عام 2013م.
لذلك، أثار الفيلم استنفارًا واسعًا في وسائل الإعلام الموالية للنظام المصري، التي سعت لمهاجمته والرد عليه، ونقلت مؤسسة "إيجبت ووتش" عن مصدر فيها قوله إن الفيلم "أجبر الإعلام المؤيد للنظام على إعادة التذكير بالمجزرة وتخصيص مساحات واسعة للرد عليها، وهو ما جعل الجميع يستحضرها مجددًا في الذكرى العاشرة".
في هذا السياق، خصص الإعلامي أحمد موسى حلقة كاملة من برنامجه المسائي للهجوم على الفيلم قبل عرضه، محاولًا تبرير المجزرة، ووقف في ميدان رابعة ممسكًا بالميكروفون مخاطبًا جمهوره بالقول: "قبل عشر سنين كان الإرهابيون هنا... وكانت رسالة التهديد قد خرجت من هذا المكان"، في محاولة لتلفيق تهمة الإرهاب للمعتصمين. كما خصص الإعلامي نشأت الديهي حلقة خاصة على قناة "تن" للرد على الوثائقي، مدعيًا أن "قرار الفض بالقوة جاء استنادًا إلى قانون حماية المتظاهرين"، وهي رواية لاقت انتقادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولم يقتصر الهجوم على الإعلام المصري، إذ نشرت قناة "العربية" تقريرًا على موقعها الإلكتروني نقله مراسلها في القاهرة، زعمت فيه أن الفيلم من إنتاج "جماعة الإخوان المسلمين"، رغم أنه باللغة الإنجليزية ومن إخراج مخرجة بريطانية مرموقة، وأن أغلب المتحدثين فيه من غير العرب، بينهم نائب بريطاني ينتمي للحزب الحاكم[8] .
في الختام، لا تقتصر فصول مجزرة رابعة على دماء الضحايا التي أُريقت في الميدان، بل تمتد إلى السرديات الإعلامية التي عملت على دفن الحقيقة، وتبرئة الجناة، وتشويه صورة الضحايا أمام الرأي العام. لقد فشلت وسائل الإعلام الموالية للنظام في أداء دورها المهني، لكنها نجحت – ولو مؤقتًا – في تنفيذ استراتيجية التعتيم والتضليل، وقلب الحقائق لتبرير العنف المفرط ضد اعتصام سلمي.
ومع مرور الوقت، ورغم حملات التضليل المستمرة، بدأت روايات الحقيقة تتسلل عبر شقوق الجدار الإعلامي، من خلال شهادات الناجين، والتقارير الحقوقية، والأفلام الوثائقية المستقلة، لتكشف ملامح جريمة لا تسقط بالتقادم. وهكذا، يبقى التوثيق شكلًا من أشكال المقاومة، وشاهدًا صادقًا على لحظة مفصلية في التاريخ المصري المعاصر. فالتستر الإعلامي قد يؤخر كشف الحقائق، لكنه لا يمحوها، والحقيقة – وإن حُجبت – لا تموت، وسوف تأتي الساعة الفاصلة التي يحاسب فيها الجناة.
المصادر:
[1] "مجزرة رابعة.. بداية تنتظر النهاية" ، عربي 21 ، 14 اغسطس 2024 ، https://goo.su/WdrM5lc
[2] " ووتش وأمنستي: دماء مهدورة في مصر" ، الجزيرة نت ، 14 أغسطس 2018 ، https://goo.su/4CkeMf
[3] "عسكر مصر.. تاريخ من المذابح استهدفت الشعب المصري" ، موقع مجلة الأمان العدد 1673 ، 23 يوليو 2025، https://goo.su/Va9c4
[4] أنس زكي ، "الإعلام المصري: شحن وتحريض وتبرير" ، الجزيرة نت، 15 اغسطس 2013 ، https://goo.su
[5] "قبل مجزرة رابعة: كيف شيطنت أذرع السيسي أنصار مرسي؟" ، العربي الجديد، 14 اغسطس 2020 ، https://linksshortcut.com/DftSM
[6] هكذا لعب الإعلام المصري دورا "خطيرا" في شيطنة "رابعة"" ، عربي21، 12 أغسطس 2020 ، https://goo.su/cIUMn
[7] أسامة الرشيدي ، "كيف هيأ الإعلام المصري الرأي العام لمذبحة رابعة؟" ، العربي الجديد، 22 اغسطس 2015، https://goo.su/Tv0jn5
[8] "إعلام السيسي في هستيريا بعد عرض فيلم عن “مجزرة رابعة”" ، الرأي الجديد، 7 أغسطس 2023 ، https://2u.pw/o7fH2