من بيع الأصول إلى التعويم إلى التهجير.. الإعلام المصري يحول الكوارث إلى إنجازات!!

الأحد - 15 يونيو 2025

إنسان للإعلام- المرصد:

منذ سنوات، تنتهج الحكومة المصرية سياسات اقتصادية واجتماعية مثيرة للجدل، تقوم على بيع أصول الدولة، والتفريط في الأراضي، وتعويم العملة المحلية، وتهجير السكان من مناطقهم التاريخية، تحت شعارات براقة مثل "الإصلاح الاقتصادي" و"المنفعة العامة".

 ورغم ما تثيره هذه السياسات من مخاوف واسعة النطاق بشأن السيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، ومستقبل الاقتصاد المصري، فإن الإعلام الرسمي والمقرب من السلطة، ومعه طيف واسع من المروجين لخطاب النظام، لا يتوانى عن دعم هذه التوجهات، دون شفافية أو نقاش حقيقي، ودون تقديم أي نقد موضوعي يُراعي مصالح المواطن، أو يحاسب صانع القرار.

بيع الأصول.. من "تيران وصنافير" إلى الخصخصة الشاملة

في أعقاب توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية في أبريل 2016، والتي بموجبها انتقلت السيادة على جزيرتي "تيران وصنافير" إلى السعودية، انخرط الإعلام المصري الرسمي والخاص في حملة مكثفة لتبرير القرار والدفاع عنه.

 اعتمدت هذه الحملة على خطاب يُضفي طابع "العلمية والتاريخية" على الاتفاقية، حيث كرر الإعلاميون، استنادًا إلى تصريحات حكومية، أن "الوثائق التاريخية تثبت أن الجزيرتين سعوديتان منذ الأربعينيات، وأن مصر كانت تتولى إدارتهما فقط بطلب سعودي منذ عام 1950 لأسباب تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي" (اليوم السابع، 11 إبريل 2016).

كما استضافت القنوات الكبرى مثل CBC  وON TV  خبراء موالين للسلطة، ركزوا على تكرار مقولات مثل أن "الحقائق لا تخضع للعواطف"، وأن "الوطنية الحقيقية تعني الاعتراف بالحقائق لا الدفاع عن الأوهام"، وذلك في محاولة لتصوير الرافضين للاتفاقية كمتحمسين بلا وعي أو أصحاب أجندات سياسية معارضة.

وقد بالغ بعض الإعلاميين مثل أحمد موسى في مهاجمة المحتجين على القرار، واعتبروا الاعتراض "خيانة للوطن وتحريضًا على الفوضى"، بينما وصف عمرو أديب الرافضين للاتفاقية بأنهم "ينكرون التاريخ" وأن السعودية "لم تكن بحاجة لأخذ الجزيرتين بالقوة، بل بالأدلة" (برنامج كل يوم، عاى قناة ON E، 10 إبريل 2016)

وقد غابت عن التغطية الإعلامية وجهات النظر القانونية والدستورية التي انتقدت الاتفاقية، رغم صدور أحكام قضائية لاحقة ببطلانها، أبرزها حكم المحكمة الإدارية العليا في يناير 2017 الذي أكد "مصرية تيران وصنافير" ورفض التنازل عنهما، غير أن الإعلام المصري تجاهل هذا الحكم في معظمه أو قلّل من أهميته، بما يعكس نمطًا من التوظيف السياسي للإعلام لصالح تبرير قرارات السلطة التنفيذية، حتى ولو تعارضت مع القانون والدستور.

وفي مارس 2024، وقّعت الحكومة المصرية اتفاقًا مع صندوق أبوظبي السيادي لبيع منطقة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي مقابل نحو 35 مليار دولار، وبإعفاءات ضريبية وامتيازات بيئية تثير جدلاً بين الخبراء حول المخاطر البيئية والاستراتيجية.

رغم ذلك، سارع إعلاميو النظام لتبرير بيع هذا الأصل من أصول الدولة؛ بدعوى الإصلاح الاقتصادي وضخ العملة الصعبة الى مصر.

وفي هذا السياق، قال أحمد موسى في برنامجه "على مسؤوليتي" على قناة صدى البلد: "أصلاً منطقة رأس الحكمة كانت صحراء، فما المشكلة إن بعناها؟ طالما سيدخل للدولة أموال كثيرة! الناس غاضبة، لكن لماذا؟ هل لأننا نقوم بالتنمية؟ أم لأن هناك أموالاً ستدخل؟ أنتم غاضبون من ماذا بالضبط؟ الدولة لا تبيع شيئًا على الإطلاق!"[1]

ورغم إعلان الإعلام الرسمي للصفقة كإنجاز اقتصادي غير مسبوق، اعتبرها خبراء مثل الصحفي الاقتصادي مصطفى عبد السلام "تصفية ممنهجة لأصول الدولة تحت ضغط الأزمة الدولارية".[2]

 بجانب رأس الحكمة، طرحت الحكومة حصصًا في أكثر من 35 شركة حكومية في قطاعات حيوية مثل البترول والكهرباء والبنوك، ضمن خطة خصخصة موسعة تهدف لجذب رأس المال الأجنبي.

تتزامن هذه السياسات مع ارتفاع الدين العام الذي تجاوز 90% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يشير إلى ضغوط مالية كبيرة تدفع الحكومة إلى الاعتماد على بيع الأصول لتعزيز مواردها.

و يرى اقتصاديون أن هذه الخطوات قد تقيد قدرة الدولة على التحكم في مواردها الأساسية، مما قد يؤثر على السيادة الاقتصادية والسياسية على المدى الطويل.

تعويم الجنيه.. المواطن يدفع الفاتورة

تعويم الجنيه المصري خلال أقل من عقد من حكم "السيسي" كان ظاهرة مثيرة للجدل، حيث ارتفع سعر الدولار من 8.88 جنيه عام 2016 إلى أكثر من 51 جنيهًا في مارس 2024.

كان التعويم استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي؛ بهدف الحصول على قروض من أجل تثبيت الاقتصاد، لكن الأثر الفعلي كان تآكل القدرة الشرائية للمواطن، فيما ارتفع معدل التضخم السنوي إلى 36.8% في يناير 2024، مع زيادة أسعار السلع الأساسية بنسبة تجاوزت 70% خلال عام واحد. في المقابل، لم تلاحق الأجور هذا الارتفاع، ما أدى إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأجور بنسبة تقارب 40%.[3]

مع ذلك ساهم الإعلام في تبرير هذا التدهور بصورة غير منطقية، حيث زعم خبير الاقتصاد إيهاب سمرة، خلال مداخلة هاتفية في برنامج "رأي عام" مع الإعلامي عمرو عبد الحميد على قناة "TeN" أن اتهام قرار الدولة بتعويم الجنيه بأنه السبب في ارتفاع نسبة التضخم غير دقيق، مدعيا أن هذا الإجراء كان بمثابة تصحيح لوضع وقيمة الجنيه المصري!.

وأضاف أن عام 2017 شهد اضطرابات تصحيحية نتيجة هذا القرار، وصلت خلالها نسبة التضخم إلى 31%، إلا أن التضخم لم يكن ناتجًا عن التعويم في حد ذاته، بل يعود إلى ضعف الإنتاجية وارتفاع السيولة في السوق[4]، في الوقت الذي كشف تقرير البنك الدولي أن 60% من سكان مصر أصبحوا عرضة للفقر أو تحت خط الفقر بسبب هذه السياسات، مع تفاقم مشكلات سوء التغذية وتسرب الطلاب من المدارس، ولم تُنفذ الحكومة برامج حماية اجتماعية فعالة، مما يُثير تساؤلات حول جدوى هذه السياسات في تحقيق تنمية مستدامة.[5]

نزع الملكية والتهجير باسم "المنفعة العامة"

شهدت جزيرة الوراق عمليات إخلاء قسرية منذ 2017، مع رفض السكان التعويضات غير العادلة، فيما أُبلغ عن نزوح آلاف الأسر من منازلهم دون توفير بدائل ملائمة في مناطق أخرى.[6]

رغم ذلك روج إعلام الدولة أكذوبة مؤداها أن هذه الإجراءات تهدف إلى تنفيذ مشروعات تنموية كبرى، ونقلت جريدة "اليوم السابع" على لسان وزير الإسكان عاصم الجزار: "لم ننزع ملكية أحد في جزيرة الوراق، والدولة اشترت بالرضا"، موضحًا أن "45 فدانًا نُقلت ملكيتها تلقائيًا، وأن التعويضات وصلت إلى 6 مليارات جنيه في عمليات شراء طوعية، مصحوبة بأوامر رسمية لحماية الجزيرة من "الإهمال العشوائي"[7]، لكن الحقيقة المرة هي أن غياب الشفافية في آليات نزع الملكية والتعويضات يثير شكوكًا حول هدف تفريغ الأراضي لتسليمها للاستثمارات الخاصة.[8]

الاستثمارات الأجنبية - شراكة أم استحواذ؟

ازدادت الاستثمارات الخليجية في مصر بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، حيث استحوذت شركات مثل "أدنوك" الإماراتية على حصص كبيرة في شركات بترول مصرية، في صفقة وُصفت بأنها جزء من خطة لتوسيع الاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة دون إنشاء بنية تحتية جديدة.

في الوقت ذاته، تم التخلي عن نسب مؤثرة في شركات الاتصالات لصالح مستثمرين من دول الخليج، وسط غياب واضح لخطط تعزز الإنتاجية أو تنقل التكنولوجيا محليًا، ما أثار تساؤلات حول الجدوى الاقتصادية لهذه الصفقات.

 وتُشير التقارير إلى أن معظم هذه الاستثمارات تركزت على شراء أصول قائمة بدلًا من المساهمة في إنشاء مشاريع إنتاجية جديدة، مما يدفع البعض إلى وصفها بأنها شكل من أشكال الاستحواذ الاقتصادي أكثر من كونها شراكات تنموية.

أيضا كان الإعلام حاضرا لتبرير هذه الكارثة، حيث اعتبر الإعلامي عمرو أديب، طرح نسبة من الشركة المصرية للاتصالات للبيع أمرًا طبيعيًا في سياق الاقتصاد العالمي، وقال في برنامجه "الحكاية" على قناة "ام بي سي مصر": "لايوجد شئ غير قابل للبيع في أي دولة.. كل حاجة بتتباع"، مضيفًا أن «الأساس هو بيبيع بكام وبيبيع إيه، وطالما سيبيع بسعر جيد وبشفافية، وحاجة هي لن تكون كبيرة، ولا تخل بأمنك القومي، أنا معاك.. بيع، وظبط حياتك"[9]

 ويعكس هذا الطرح تبني خطاب رسمي يروّج لفكرة أن البيع ليس أزمة في حد ذاته، بل هو وسيلة لضبط الاقتصاد، حتى وإن شمل قطاعات استراتيجية كشركات البترول والاتصالات.

الإعلام الرسمي – غطاء للسياسات الحكومية

في خضم الأزمات الاقتصادية المتكررة التي تمر بها مصر، يلعب الإعلام الرسمي دورًا محوريًا في تشكيل السردية العامة وتوجيه الرأي العام. وبدلاً من تقديم تغطية موضوعية تعكس الواقع، يتحول الإعلام الرسمي إلى أداة دعائية تروج للسياسات الحكومية، متجاهلاً الآثار السلبية التي قد تترتب على هذه السياسات.

على سبيل المثال، خلال فترات تعويم الجنيه المصري، يركز الإعلام الرسمي على إبراز "فرص التصدير" و"تشجيع الاستثمار"، متجاهلاً التحديات التي يواجهها المواطنون، مثل ارتفاع معدلات التضخم وتآكل القدرة الشرائية.

وعادة تستضيف البرامج الحوارية شخصيات محسوبة على النظام تروج لفوائد هذه السياسات دون تقديم نقد موضوعي أو استعراض للآثار الجانبية المحتملة.

في المقابل، يعاني الإعلام المستقل والمعارض من تضييق شديد، حيث تم حجب العديد من المواقع الإلكترونية وتقييد حرية التعبير.

هذا التضييق يحد من قدرة المواطنين على الوصول إلى معلومات موضوعية ومتنوعة، مما يؤدي إلى تآكل الرقابة الشعبية وانعدام الشفافية، حتى وسائل التواصل الاجتماعي، التي كانت تمثل متنفسًا نسبيًا للخطاب البديل، أصبحت تُرصد بدقة، ويتعرض مستخدموها لاعتقالات وملاحقات قانونية عند انتقاد السياسات الاقتصادية أو فضح قضايا الفساد والتهجير القسري.

بهذا، فإن السياسات الحالية في مصر تعكس توجهًا ديكتاتوريا لتفكيك ملكية الدولة للأرض والاقتصاد، تحت شعار "الإصلاح".

هذه السياسات قد تحل أزمة السيولة مؤقتًا لكنها لا تبني اقتصادًا مستدامًا أو مجتمعًا عادلًا.، فالإصلاح الحقيقي يبدأ ببناء اقتصاد إنتاجي، وتعزيز الشفافية، وإشراك المواطنين في صنع القرار، ليكون في قلب العملية الاقتصادية.

 وغياب التعددية الإعلامية يسهم في زيادة مساحة التشويش على المواطن وتجهيله وإقناعه بمؤشرات اقتصادية وهمية، ولا يسمح بتكوين وعي جمعي سليم تجاه الأزمات، بل يُبقي المواطن في حالة من التعتيم أو الإلهاء عبر قضايا ثانوية، في حين تُمرر السياسات الكبرى دون مساءلة أو حوار مجتمعي. وهذا الخلل في البيئة الإعلامية يعكس، في جوهره، خللًا أعمق في علاقة الدولة بالمجتمع.


المصادر:

[1]حوار احمد موسى عن صفقة رأس الحكمة،  https://youtu.be/2W5fsfTodEI?si=uXpwQscKTmmyBant   

[2] جريدة الامة الاكترونية: صفقة راس الحكمة، https://2h.ae/ISde

[3] رويترز: "فيديو مجتزأ للسيسي حول المستفيدين من تحرير سعر الجنيه،  https://2u.pw/4w8bJ   

[4] "اليوم السابع"  قرار تعويم الجنيه ليس السبب وراء التضخم،  https://2u.pw/A8vYJ

[5] العربي الجديد: "تأثيرات تعويم الجنيه المصري"، https://2u.pw/6B1hU

[6] المنصة: "نزع الملكية.. إخلاء قسري بحكم القانون"، https://2u.pw/xCIiI

[7] "اليوم السابع": وزير الإسكان لم ننزع ملكية احد والدولة اشترت بالتراضي،   https://2u.pw/13hOV

[8] الشروق: "سكان العرايشية يرفضون تعويضات نزع الملكية"، https://2u.pw/rnOfb

[9] "المصري اليوم": تعليق عمرو أديب على نسبة من شركة المصرية للاتصالات،  https://2u.pw/vol0U