تواطؤ وسقوط أخلاقي: وسائل الإعلام الغربية تتخلى عن مراسليها الشهداء في غزة!
الخميس - 28 آغسطس 2025
- ترويج السردية الصهيونية يتغلب على دعم الصحفيين من الإبادة ويجردهم من إنسانيتهم
- القتل المباشر للمراسلين يُروج في الغرب كـ"خطأ مؤسف" وفي الإعلام العبري كـ"ضرب لإرهابيين"
"إنسان للإعلام"- فريق التحرير:
رغم أن عدداً كبيراً من الصحفيين في غزة كانوا يعملون لصالح وكالات أنباء وصحف أجنبية، فإن هذه الوسائل الإعلامية تخلّت عن مجرد ذكر أنهم ضمن طواقمها حين قتلتهم حكومة نتنياهو، وهو ما أثار غضباً عالمياً وكشف تواطؤاً فاضحاً ولا أخلاقية في الممارسة الصحفية الغربية التي سبق أن ساهمت في تبرير جرائم الاحتلال والإبادة الجماعية.
فجميع المؤسسات الإعلامية الكبرى، من "نيويورك تايمز" إلى "واشنطن بوست"، ومن "أسوشييتد برس" إلى "رويترز"، تجاهلت أسماء الصحفيين والمصورين الذين اغتالتهم "إسرائيل"، أو الإشارة إلى أنهم كانوا يعملون لديها، واستمرت في أداء دورها كناقل دعائي لرواية "إسرائيل"، مبيّضةً جرائم الحرب، ومجرّدةً الضحايا من إنسانيتهم، متخليةً عن زملائها وعن التزامها المزعوم بالصحافة الحقيقية والأخلاقية، كما وصفها الصحفي الأميركي جيريمي سكاهيل.
وفي مقالة نشرها "سكاهيل" عبر موقع "Drop Site News" الاستقصائي الأميركي، كتب يقول: "كل وسيلة إعلامية كبرى – من نيويورك تايمز إلى واشنطن بوست، ومن AP إلى رويترز – عملت كخط ناقل لدعاية إسرائيل، تُلمّع جرائم الحرب وتجرّد الضحايا من إنسانيتهم، وتُهمل زملاءها، وتتنكّر لما تزعم أنه التزام بالصحافة الحقيقية والأخلاقية".
كما أشار الصحفي "توماس كيث" إلى أن القصف "الإسرائيلي" لمستشفى ناصر وقتل خمسة صحفيين جرى تسويقه في الإعلام الغربي الناطق بالإنجليزية على أنه "خطأ مؤسف"، بينما في الإعلام العبري قُدِّم بفخر على أنه "مقر إرهابي ضُرب مرتين" و"صحفيون قُتلوا".
وأضاف أن هذه الازدواجية ليست ارتباكاً بل سياسة ثابتة، تشمل الإنكار والتلطيف للرأي العام العالمي، والتفاخر والتحريض للرأي العام الإسرائيلي الداخلي[1]
فبعد أن قتل الاحتلال ستة من الصحفيين والمصورين، بينهم طاقم "الجزيرة" ومراسلها أنس الشريف، عاد ليغتال خمسة صحفيين آخرين هم: مصور "الجزيرة" محمد سلامة، ومصور وكالة "رويترز" للأنباء حسام المصري، والصحفية مريم أبو دقة التي كانت تعمل مع عدد من الوسائل الدولية بينها "إندبندنت عربية" و"أسوشييتد برس"، إضافة إلى الصحفي مع شبكة NBC الأميركية معاذ أبو طه.
وقد قضى هؤلاء جميعاً جراء استهدافين مباشرين لمجمّع ناصر الطبي في خان يونس جنوبي القطاع.
وبرّر جيش الاحتلال عملية اغتيال الصحفي أنس الشريف باتهامه بأنه يعمل في "الجزيرة" ستاراً لنشاطه المزعوم كـ"قائد خلية في الجناح العسكري لحركة حماس"، وهي رواية أعادت وكالة "رويترز" نشرها رغم أن "الشريف" كان أحد صحفييها المعروفين، ورغم علمها بأنه صحفي لا مقاتل.
صحفية في "رويترز" تمزيق هويتها
دفعت جرائم الاحتلال الصحفية الكندية فاليري زينك، العاملة مع وكالة "رويترز"، إلى تمزيق بطاقتها الصحفية وإعلان توقفها عن العمل مع الوكالة، متهمةً إياها بـ"تبرير وتمكين الاغتيال المنهجي لـ245 صحافياً في غزة"، وأكدت زينك أنها تدين لزملائها في فلسطين بهذا الموقف وأكثر من ذلك.
وانتقدت الصحفية الكندية بشدّة وسائل الإعلام الغربية، متهمةً إياها بتحمّل المسؤولية المباشرة عن خلق ظروف تُمكّن من اغتيال الصحفيين، وذلك من خلال ترديد الأكاذيب "الإسرائيلية" دون التحقق من مصداقيتها، والتخلي عن أبسط مسؤوليات الصحافة.
وقالت "زينك" في تدوينة نشرتها على منصة "إكس"، مرفقةً بصورة لبطاقتها الصحفية الممزقة مع "رويترز": "لا أستطيع تصور حمل هذه البطاقة إلا بشعور عميق بالخزي والحزن، وذلك بعد ثمانية أعوام من العمل مع المؤسسة".
وأضافت: "لا أعرف ما الذي يعنيه أن أبدأ في تكريم شجاعة وتضحيات الصحافيين في غزة، الأشجع والأعظم ممن عاشوا يوماً، لكن من الآن فصاعداً سأوجّه أي مساهمة أستطيع تقديمها وفي ذهني هذا الهدف أولاً".
وأشارت إلى أنها عملت خلال السنوات الثماني الماضية كمراسلة مستقلة لصالح "رويترز"، ونُشرت صورها التي غطّت أحداثاً في المقاطعات الكندية الوسطى في "نيويورك تايمز"، و"الجزيرة"، ووسائل إعلام أخرى عبر أميركا الشمالية وآسيا وأوروبا، لكنها شددت على أن الاستمرار في أي علاقة مع "رويترز" بات أمراً مستحيلاً بالنظر إلى دورها في تبرير وتمكين الاغتيال الممنهج للصحفيين في غزة.
وذكرت زينك: "حين اغتالت إسرائيل الصحفي أنس الشريف مع كامل طاقم قناة الجزيرة في مدينة غزة يوم 10 أغسطس، اختارت رويترز أن تنشر مزاعم إسرائيل الباطلة كلياً بأن الشريف عنصر في حركة حماس، وهي واحدة من الأكاذيب التي لا تُحصى والتي دأبت وسائل إعلام مثل رويترز على ترديدها ومنحها المشروعية".
وأضافت أن رغبة "رويترز" في ترويج دعاية "إسرائيل" لم تحمِ حتى صحفييها من الإبادة، إذ قُتل خمسة صحفيين آخرين بينهم مصوّرها حسام المصري، ضمن عشرين شخصاً في هجوم جديد على مستشفى ناصر.
ووصفت ذلك بما يُعرف بضربة "الدبل تاب"، حيث يقصف جيش الاحتلال هدفاً مدنياً مثل مدرسة أو مستشفى، ثم ينتظر وصول المسعفين وفرق الإنقاذ والصحفيين ليعود ويقصف مجدداً.
وتابعت: "عمل أنس الشريف الذي حاز بفضله جائزة بوليتزر لصالح "رويترز"، لم يدفع الوكالة إلى الدفاع عنه حين وضعه جيش الاحتلال "الإسرائيلي" على قائمة الاغتيالات باعتباره عنصراً في حماس أو الجهاد الإسلامي.
ولم تدافع عنه حتى عندما ناشد الإعلام الدولي توفير الحماية له بعد نشر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي مقطع فيديو يوضح نيتهم اغتياله إثر تقرير عن المجاعة المتفاقمة، ولم تدافع عنه عندما جرى تعقبه وقتله بعد أسابيع، ولم تغطِّ استشهاده بصدق".[2]
الإعلام الغربي شريك في الإبادة
اعتبرت "فاليري زينك" أن الإعلام الغربي شريك مباشر في صناعة الظروف التي تسمح بارتكاب جرائم الاغتيال بحق الصحفيين، وقالت: "إن الإعلام الغربي يتحمل مسؤولية مباشرة في خلق الظروف التي تجعل مثل هذه الجرائم ممكنة".
وأوضحت أن وسائل الإعلام الغربية، من خلال ترديد الأكاذيب "الإسرائيلية" بلا تحقق، والتخلي عمداً عن أبسط مسؤوليات الصحافة، جعلت من الممكن قتل عدد من الصحفيين خلال عامين على شريط أرضي صغير يفوق ما قُتل في الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وحروب كوريا، وفيتنام، وأفغانستان، ويوغوسلافيا، وأوكرانيا مجتمعة، فضلاً عن تجويع شعب بأكمله، وتمزيق أطفاله، وحرق المدنيين أحياء.
وانتقدت "زينك" بشدة الإعلام الغربي، مؤكدة أنه يتحمل مسؤولية مباشرة عن تمكين اغتيال الصحفيين من خلال إضفاء الشرعية على الأكاذيب الإسرائيلية، مشيرة إلى أن هذا التواطؤ هو تخلي متعمّد عن الحد الأدنى من أخلاقيات المهنة.
وانتقد عدد من الصحفيين الفلسطينيين الطريقة التي وصفت بها المؤسسات الغربية زملاءهم بعد استهدافهم المباشر من قبل الجيش "الإسرائيلي"، وكتب الصحفي باسل خلف من "التلفزيون العربي" منشوراً قال فيه: "الحياد والموضوعية في غير محلها، وربما للوقاحة أشكال مختلفة".
تبريرات للتنصل من المسؤولية
للتنصل من المسئولية، قالت وكالة "أسوشييتد برس" إن الصحفية مريم أبو دقة كانت "صحفية مستقلة" تتعاون معها، لكنها "لم تكن في مهمة لصالح الوكالة" عند استهدافها وقتلها، أما وكالة "رويترز" فاكتفت بالقول إن "أحد الصحفيين القتلى وأحد الجرحى يعملان معها كمتعاقدين".
في الوقت نفسه، أعلنت وكالة "فرانس برس" أنها لم تتمكن من التثبت بصورة مستقلة من معلومات الجيش "الإسرائيلي" أو الدفاع المدني، مشيرة إلى القيود "الإسرائيلية" المفروضة على الإعلام في غزة وصعوبة الوصول إلى مواقع القصف.
وكشف الصحفي الفلسطيني سليم الريس أن وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفزيون الشهيرة عملت منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة على إجلاء معظم طواقمها الرسمية إلى الخارج، واستبدلتهم بمتعاقدين محليين يعملون وفق أجور شهرية أو يومية أو حسب المادة المصورة أو المكتوبة.
وأوضح أن الهدف كان تقليل الأعباء المالية في حال إصابة أو مقتل أحد الموظفين الرسميين، بينما ركزت هذه الوكالات على شراء المواد الصحفية التي تراها ذات قيمة في تقييمها، دون اكتراث فعلي بحياة المتعاقدين معها.
وأضاف الريس: "مع كل استهداف لأحد الزملاء أو الزميلات المتعاقدين، تسارع وكالاتهم إلى التأكيد على أن المستهدف لم يكن في مهمة رسمية أو أنه ليس متعاقداً دائماً، وذلك للتهرب من أي التزامات مادية أو أخلاقية قد تترتب على عاتقها، والمثال الأبرز على ذلك ما حدث في مستشفى ناصر".
تحريض صهيوني على قتل الصحفيين
أطلق تسفي يحزكيلي، كبير معلّقي قناة i24 الإسرائيلية، دعوة علنية لقتل جميع الصحفيين في قطاع غزة، قائلاً: "إذا كانت إسرائيل قد قررت بالفعل تصفية الصحفيين، فأن تأتي متأخراً أفضل من ألا يحدث أبداً!".
وزعم يحزكيلي أن "الصحفيين يختبئون في المستشفيات، يفتحون هناك غرف عمليات، ويعرضون للعالم صورة معاكسة تماماً، وما زالوا يخدمون مصلحة حماس"، وأضاف: "إنهم رأس الحربة للجناح العسكري لحماس، هؤلاء الصحفيون المزعومون".
وختم بالقول: "ولذلك أحسنت إسرائيل صنعاً بتصفيتهم. برأيي، كان ذلك متأخراً جداً، ولا يزال هناك الكثير منهم ممن يسببون أضراراً في الصورة والوعي في معركة نحن، للأسف، لا نبرع فيها كثيراً"، وفق تعبيره الذي يجسد خطاباً متطرفاً وتحريضاً صريحاً على قتل الصحفيين[3]
محاسبة "إسرائيل" ومطالبات بتدخل دولي
أدانت منظمة "مراسلون بلا حدود" استمرار قتل الصحفيين الفلسطينيين جراء غارات جيش الاحتلال على قطاع غزة، وجددت دعوتها لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي "من أجل وضع حد لهذه المجزرة بحق الصحفيين".
وقال المدير العام للمنظمة، تيبو بروتين، في بيان صدر الاثنين 25 أغسطس، إن جيش الاحتلال لا يزال ينتهك قرار مجلس الأمن رقم 2222 الذي يضمن حماية الصحفيين في أوقات النزاع، مستنكراً في الوقت ذاته مساعي "إسرائيل" لحجب المعلومات القادمة من غزة.
وأضاف: "إلى متى ستستمر إسرائيل في تحدي القانون الإنساني الدولي؟ فرغم أن القانون الدولي يكفل حماية الصحفيين، إلا أن القوات الإسرائيلية قتلت أكثر من 200 منهم في غزة خلال العامين الماضيين".
وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر القرار 2222 عام 2015، مؤكداً ضرورة حماية الصحفيين الذين يغطون مناطق النزاعات المسلحة، ومشدداً على أن معداتهم ومكاتبهم تُعتبر أصولاً مدنية يجب حمايتها.
كما نص القرار على دعم جهود الأمم المتحدة لتعزيز سلامة الصحفيين ومكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة بحقهم.
من جانبها، أكدت مديرة البرامج في "مراسلون بلا حدود"، لويز ألوين بيشيه، في مقابلة مع قناة "الجزيرة"، أن المجتمع الدولي ملزم بحماية الصحفيين، لافتةً إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، "ينتهك التدابير التي تحكم النزاعات المسلحة ويقتل الصحفيين".
وقالت بيشيه إن هذه الانتهاكات "تتطلب ترتيب المواقف الدولية ورفع منسوب الضغط على إسرائيل وزيادة زخم الحراك المدني المناهض لإسرائيل دولياً"، مشددةً على ضرورة "فرض ضغوط سياسية واقتصادية وعقوبات عليها".
وأشارت إلى أن "الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي ستنعكس على مزيد من النزاعات مستقبلاً"، داعيةً شعوب العالم كافة إلى "رفع أصواتهم ضد هذه الممارسات".
هكذا، ومع كل صحفي يُقتل أو يُشوَّه تاريخه، تتعرى الشعارات الغربية عن حرية التعبير وحقوق الإنسان، لتظهر ازدواجية فاضحة لا يمكن إخفاؤها.
ولعل أكثر ما يكشف بشاعة هذا المشهد أن الدماء التي أُريقت لم تكن كافية لتستفز ضمير المؤسسات الغربية العالمية كي تدافع عن مراسليها، ففي حين يسقط الصحفيون في غزة تحت نيران القصف، تُسقط المؤسسات الغربية ما تبقى لها من مصداقية.
[1] تغريدة توماس كيث https://x.com/iwasnevrhere_/status/1959979461127868827
[2] تغريدة الصحفية فاليري زينك https://x.com/valeriezink/status/1960136478425809059
[3] تغريدة تفضح سلوك كبير معلقي قناة i24 الإسرائيلية تسفي يحزكيلي https://x.com/tamerqdh/status/1960246954111148198