تأميم السياسة عبر الشاشات| الدور الخفي للإعلام الأمني في "طبخ" الانتخابات المصرية
الأربعاء - 19 نوفمبر 2025
- توزيع الأدوار الحزبية عبر الشاشات.. تعليمات مباشرة تحدد مَن يظهر ومتى وكيف؟
- "مستقبل وطن".. نموذج الحزب الذي يصنعه الأمن الوطني ويمنحه الحضور الأكبر
- "حماة وطن" و"الجبهة الوطنية".. ولاءات متنافسة بين المخابرات العامة والحربية
- إقصاء المعارضة.. تغييب الأصوات المستقلة لصالح سردية "الاستقرار مقابل الخطر"
- الدور الاقتصادي للأجهزة الأمنية.. اقتسام التغطية والدعاية وفق المصالح والنفوذ
"إنسان للإعلام"- فريق التحرير:
منذ أن أحكمت الأجهزة الأمنية والاستخبارية في عهد عبد الفتاح السيسي قبضتها على معظم الفضائيات المصرية، عبر الشراء المباشر أو الاستحواذ القسري من رجال الأعمال المالِكين، بدا واضحًا أن الهدف هو تأميم المشهد الإعلامي وتجفيف مساحات النقد، وتحويل هذه المنصات من مؤسسات إعلامية إلى أدوات دعائية تدافع عن السلطة وتتبنى روايتها دون نقاش.
وفي هذا السياق، كان طبيعيًا أن تتحول الفضائيات التابعة لشركة المخابرات العامة "المتحدة للخدمات الإعلامية" إلى منصات دعاية سياسية لأحزاب السلطة، أو ما يُعرَف بـ"أحزاب الموالاة"، بعدما تجاوز نظام السيسي نموذج "الحزب الواحد" الذي اعتمده أسلافه، ليصنع منظومة واسعة من الأحزاب التي يقودها عسكريون وضباط شرطة واستخبارات سابقون، جميعها تتحرك في فلك النظام وتعمل بوصفها امتدادًا له.
وتكشف خريطة العلاقات المتشابكة بين الأجهزة الأمنية وهذه الأحزاب ووسائل الإعلام، عن سبب التفاوت الواضح في حجم التغطية الإعلامية المخصصة لكل حزب، وعن طبيعة النفوذ الذي يملكه كل منها داخل هذه المنظومة المغلقة.
توزيع الأدوار
في 11 نوفمبر 2025 نشرت منصة "صحيح مصر" تقريرًا موسعًا تناول التغطية الإعلامية لأحزاب الموالاة داخل القنوات التلفزيونية المملوكة للأجهزة الأمنية أو الخاضعة لسيطرتها.
كشف التقرير، بشكل غير مباشر، الطريقة التي تُدار بها السياسة في مصر، وكيف تمتد هذه الإدارة لتتحكم في مقدرات الدولة ومساراتها.
وأشار إلى أن الأجهزة الأمنية التي تتحكم في تشكيل الأحزاب وتوزيع الأدوار بينها، هي نفسها التي رتّبت مقاعد "القائمة الوطنية من أجل مصر" مسبقًا، وخصوصًا الأحزاب الثلاثة الكبرى في معسكر الموالاة: مستقبل وطن، حماة الوطن، والجبهة الوطنية.
وقد حصدت هذه الأحزاب وحدها 218 مقعدًا من أصل 284 ضمن القائمة الفائزة، دون أي منافسة تُذكر، نتيجة غياب القوائم المنافسة بالكامل.
كما أوضح التقرير أن عدد المقاعد الذي حصل عليه كل حزب قبل بدء العملية الانتخابية فعليًا – حيث نال حزب مستقبل وطن 121 مقعدًا، يليه حزب حماة الوطن بـ 54 مقعدًا، ثم حزب الجبهة الوطنية بـ 43 مقعدًا – جاء متزامنًا مع توزيع مدروس للرعاية الإعلامية. ، حيث خصصت الأجهزة السيادية لكل حزب مساحة الظهور في قنوات بعينها، بما يعكس النفوذ الذي يتمتع به داخل المنظومة وحجم الدور المطلوب منه في المشهد السياسي المصطنع.
خريطة المصالح
كشف تقرير "صحيح مصر" عن الدعم الكامل الذي يقدمه قطاع الأمن الوطني لحزب "مستقبل وطن"، وعن تسخير قناة "المحور" لخدمة الحزب على حساب بقية أحزاب الموالاة، مثل "حماة وطن" و"الجبهة الوطنية" و"الشعب الجمهوري".
ونقل التقرير، عن مصادر مطلعة، أن تعليمات واضحة كانت تُصدر بمنع استضافة ممثلين عن حزب الجبهة الوطنية أو حزب حماة وطن في برامج القناة، بحجة أن لكل من هذه الأحزاب منصات إعلامية أخرى مخصصة لتلميعها وإبرازها.
كما أشار التقرير إلى أن المخابرات العامة تولت رعاية حزب الجبهة الوطنية، وهو الحزب المدعوم من رجل الأعمال إبراهيم العرجاني، من خلال شبكة قنوات "المتحدة" التي تسيطر على محطات DMC وCBC وON، غير أن هذه القنوات لم تكتف بدعم هذا الحزب وحده، بل تبنت أيضًا الترويج لبقية أحزاب الموالاة بوصفها جزءًا من المنظومة الدعائية الأساسية خلال الفترة الانتخابية.
وفي الاتجاه المقابل، أظهر التقرير ميل المخابرات الحربية إلى دعم حزب "حماة وطن"، وهو الحزب الذي أسسه ضباط متقاعدون من الجيش ولا يزالون على صلة وثيقة بالمؤسسة العسكرية.
وقد انعكس هذا الدعم في منح الحزب أولوية الظهور على قنوات الحياة وإكسترا نيوز، بما يعزز صورته السياسية ويمكّنه من حضور إعلامي أوسع داخل الفضاء الموالي للنظام.
تعليمات مباشرة
أظهر تحليل الأداء الإعلامي الذي أجرته منصة "صحيح مصر"، اعتمادًا على شهادات من داخل المؤسسات الإعلامية نفسها، أن القنوات كانت تعمل وفق تعليمات تُرسل إليها من مكاتب تنسيق تابعة للأجهزة الأمنية.
وقد أدى ذلك إلى نشوء ما يشبه الإقطاعيات الإعلامية، حيث باتت كل جهة أمنية أو شبه عسكرية تمتلك منصتها الخاصة التي تتولى الترويج للحزب الذي أنشأته أو الذي يمثل مصالحها ونفوذها وشبكات رجال الأعمال المرتبطين بها.
وبناءً على هذا الواقع، لم يعد المشهد مرتبطًا بنتائج الانتخابات المحسومة مسبقًا، بل بتوزيع النفوذ بين هذه الإقطاعيات الأمنية وتقاسمها "التورتة" السياسية والإعلامية بما يخدم مصالحها الاقتصادية، في ظل امتلاك كل جهة نصيبًا معتبرًا من الاقتصاد المصري.
وبذلك بدا المشهد الانتخابي والإعلامي وكأنه يسير على نغمة واحدة: أحزاب موالية تعلن ولاءها صراحة، وتسيطر مسبقًا على أغلب القوائم الفائزة، وتمتلك حضورًا قويًا في السباق الفردي، وفي المقابل، اضطلعت القنوات التابعة للأجهزة الأمنية بمهمة التسويق لهذه الأحزاب وبرامجها ومرشحيها، بل للتجربة الانتخابية برمتها.
غير أن هذا التماهي في الخطاب لم يلغِ وجود تباينات واضحة في التفاصيل، إذ مالت بعض القنوات إلى دعم أحزاب معينة من بين أحزاب الموالاة، بينما همّشت أحزابًا أخرى.
وجاء هذا الميل بتوجيهات مباشرة من داخل الأجهزة الأمنية، في إطار أدوار مُحددة لا تؤثر على نتائج الانتخابات نفسها، لكنها تصنع الفروق في مستوى التسويق السياسي وتكشف اختلافًا في درجة التنسيق بين الجهات المسؤولة عن إدارة المشهد الانتخابي.
وقد تحدثت منصة "صحيح مصر" إلى عدد من العاملين في القنوات التلفزيونية الخاضعة للجهات الحكومية، الذين كشفوا خريطة النفوذ الأمني داخل هذه القنوات وكيفية تأثيره على عمليات الترويج الانتخابي للأحزاب الموالية للنظام.
وعلى الرغم من التباينات بين القنوات، فإن الخط العام للتغطية الإعلامية كان يتركز على ثلاثة أحزاب فقط: مستقبل وطن، وحماة وطن، والجبهة الوطنية. وينسجم هذا التركيز مع هيمنة هذه الأحزاب على القوائم الانتخابية، إذ تستحوذ مجتمعة على 218 مقعدًا من أصل 284 ضمن القائمة الوطنية من أجل مصر، التي فازت دون منافسة بعد غياب القوائم الأخرى.
أسباب التباين
فسرت مصادر داخل قنوات دي إم سي (DMC) وسي بي سي (CBC) والمحور التباين في التغطية الإعلامية لأحزاب الموالاة خلال فترة الدعاية الانتخابية بأنه "نتيجة أوامر مباشرة تتلقاها كل قناة من إدارتها، تحدد بدقة طبيعة المحتوى السياسي الذي ينبغي تقديمه".
ووفقًا لهذه المصادر، فإن التعليمات في قناة المحور كانت واضحة منذ البداية: منح مساحة أوسع لمرشحي حزب مستقبل وطن، وتقديمهم على أي من مرشحي الأحزاب الأخرى المحسوبة على معسكر الموالاة.
وفي بعض الأحيان، امتدت التعليمات إلى منع استضافة ممثلين عن حزب "الجبهة الوطنية" أو حزب "حماة وطن" في برامج القناة، بحسب ما أكده ثلاثة من العاملين فيها، رغم أن كلا الحزبين يُصنّف أيضًا ضمن الأحزاب الداعمة للسلطة.
وكشف أحد أعضاء الفريق التحريري في أحد برامج التوك شو أن توجيهات إدارة القناة خلال فترة الدعاية لانتخابات مجلس الشيوخ نصت على تخصيص التغطية لمرشحي "مستقبل وطن" في المقاعد الفردية، مع استضافة ممثلي الحزب في القوائم الانتخابية.
وأكد مصدر حزبي أن هذه التوجيهات لا ترتبط مباشرة بملكية رجل الأعمال محمد منظور للقناة، رغم كونه نائب رئيس حزب "مستقبل وطن"، موضحًا أن شراء منظور للقناة عام 2021 جاء في سياق العلاقة الوطيدة بين الحزب وجهاز الأمن الوطني، ودور الجهاز في رسم سياسات الحزب وتوجيه نشاطه الإعلامي.
وقد برز نفوذ جهاز الأمن الوطني بوصفه العامل الحاسم في تحديد توجهات قناة "المحور"، إذ عمل على تعزيز حضور "مستقبل وطن" في الظهور الإعلامي، مقابل الحد من مساحة أحزاب أخرى تدور في فلك أجهزة أمنية مختلفة.
ويعود هذا النفوذ إلى طبيعة العلاقة بين الحزب والجهاز، منذ تأسيس "مستقبل وطن" في أغسطس 2014 على يد محمد بدران وأشرف رشاد، وهي علاقة منحته دعمًا سياسيًا وإعلاميًا مكّن الحزب من تصدر المشهد البرلماني في الدورات الأخيرة.
وشهدت السنوات الماضية عدة وقائع أثارت الجدل حول الحزب، من بينها اعتداءات طالت نقابة المهندسين خلال اجتماع الجمعية العمومية الطارئة في يونيو 2023، وأخرى استهدفت أعضاء حملة أحمد طنطاوي أمام مكاتب الشهر العقاري في العام نفسه، ويواصل الحزب اليوم تصدر تمثيل القائمة الوطنية من أجل مصر بـ 121 مقعدًا، يليه حزب حماة وطن بـ 54 مقعدًا، ثم حزب الجبهة الوطنية بـ 43 مقعدًا.
مشهد مختلف
على شاشات القنوات المملوكة للشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية"، بدا المشهد مختلفًا في ظاهره، رغم خضوعه للتوجيهات نفسها، فبحسب مصادر داخل هذه القنوات، وما رُصد من محتوى بثته خلال فترة الانتخابات، ركزت القنوات الأربع التابعة للشركة المتحدة، وهي "دي إم سي" و" سي بي سي" و"أون إي"، على تلميع حزب الجبهة الوطنية، المدعوم من إبراهيم العرجاني.
ومع ذلك، عملت هذه القنوات، إلى جانب قنوات الحياة وإكسترا نيوز وإكسترا لايف، على استضافة مرشحين من مختلف الأحزاب الموالية، بحكم كونها منصات السلطة الأساسية في التغطية السياسية.
وكشف مصدر لمنصة "صحيح مصر" أن تعليمات واضحة صدرت لقناتي "دي إم سي" و"إكسترا نيوز"، اللتين تُعدان الأقرب إلى المؤسسة العسكرية، تقضي بمنح أولوية تغطية أنشطة حزب "حماة وطن"، وهو الحزب الذي يقوده عدد من الضباط المتقاعدين.
ووفقًا للتعليمات نفسها، يأتي حزب "الجبهة الوطنية" في مرتبة تالية، نظرًا لحداثة تأسيسه ولعلاقاته المتشعبة مع رجال أعمال مقربين من السلطة، وفي مقدمتهم "العرجاني".
وأكد مصدران يعملان في قناتي "إكسترا نيوز" و"الحياة" أن التعليمات الداخلية منذ بدء التغطية لانتخابات مجلس الشورى نصّت على منح أفضلية واضحة في عدد الأخبار والتقارير لحزب "حماة وطن"، سواء من حيث حجم التغطية أو نوعيتها.
وشملت هذه الأفضلية بث المواد المصورة الترويجية لأنشطة الحزب، واستضافة قياداته في البرامج الحوارية، على أن يأتي حزب "الجبهة الوطنية" في المرتبة الثانية بحصة أقل من التغطية، بينما يظل ظهور حزب "مستقبل وطن" عبر قنوات المتحدة محدودًا للغاية.
ويحظى حزب "حماة وطن"، الذي تأسس عام 2013 على يد مجموعة من الضباط المتقاعدين من بينهم جلال هريدي وسامح سيف اليزل، بعلاقات وثيقة مع جهاز المخابرات الحربية، ما يجعله إحدى واجهاتها السياسية.
وكما هو معروف، ترتبط الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية بشركة "إيجل كابيتال"، وهي صندوق استثمار مباشر تأسس عام 2016 ويتبع جهاز المخابرات العامة، ما يفسر الانحياز الواضح لقنواتها نحو حزب "الجبهة الوطنية"، الذي يضم بين أعضائه عصام العرجاني، نجل رجل الأعمال إبراهيم العرجاني الممول الرئيسي للحزب، وترجّح مصادر مطلعة وجود روابط مباشرة بين الحزب وجهاز المخابرات العامة المالك لهذه المنظومة الإعلامية.
سيطرة إعلامية
يشير تحليل مفصل، يستند إلى ما نشرته تقارير بحثية وإعلامية مستقلة حول الدور الذي لعبته قنوات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، إلى الأثر العميق للسيطرة الإعلامية في توجيه الرسائل السياسية خلال الانتخابات المصرية، سواء النيابية أو الرئاسية.
وتعتمد هذه التقارير على دراسات صادرة عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط، ومؤسسة "فريدوم هاوس" الأمريكية، ومشروع Arab Media & Society التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، إضافة إلى مشروع Media Ownership Monitor التابع لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، التي تربط جميعها بين التحكم بالإعلام وهيمنة الدولة على المجال العام بصياغة الوعي السياسي للجمهور.
وتوضح هذه الدراسات أن الإعلام المملوك للدولة أو الخاضع للأجهزة الأمنية أعاد تشكيل المجال العام بصورة جعلت الرسائل السياسية القادمة من السلطة المصدر الرئيسي للوعي الشعبي.
وتم ذلك من خلال إعادة ترتيب أولويات التغطية لإبراز إنجازات الحكومة وتخفيف التركيز على الأزمات الاقتصادية، وصناعة سردية انتخابية واحدة تقوم على معادلة "الاستقرار مقابل الخطر".
وترافق ذلك مع تهميش الأحزاب المعارضة وإقصائها من الشاشات، أو تقديمها باعتبارها كيانات ضعيفة بلا قاعدة جماهيرية.
كما تؤكد الدراسات أن الترويج المباشر لأحزاب الأغلبية كان مهمة رئيسية لقنوات المتحدة، التي خصصت مساحات واسعة لتغطية أنشطة أحزاب "مستقبل وطن، حماة وطن، والشعب الجمهوري"، وفق توزيع محسوب على كل قناة. ورافقت هذه التغطيات احتفالات بالحشود وتقديم للمرشحين على أنهم أصحاب خبرات وقدرات قيادية، في مقابل تغييب كامل للمعارضة.
وتشير تقارير صادرة عن صحيفة "الغارديان"، ومجموعة الأزمات الدولية، وعدد من المنظمات الحقوقية، إلى أن أحد أهداف الحملة الإعلامية لهذه القنوات كان تعزيز صورة الانتخابات بوصفها عملية محسومة مسبقًا، وتقليل أي شعور بالمنافسة، بما يمنح العملية الانتخابية مظهر الاستقرار والاصطفاف خلف مرشح واحد أو اتجاه سياسي واحد.
ويهدف هذا النهج إلى ترسيخ الانطباع بأن "الدولة كلها تقف خلف مرشح واحد"، على غرار هيمنة "السيسي" على المشهد السياسي، بما يمهّد لبرلمان جديد بلا معارضة، وقادر على تمرير أي تعديلات دستورية تُرسخ بقاء الرئيس في السلطة. ومن ثم لعب إعلام "المتحدة" دورًا مركزيًا في إعادة تشكيل المجال العام سياسيًا، ودعم أحزاب الدولة، وإقصاء الأصوات المعارضة، وشرعنة العملية الانتخابية داخليًا وخارجيًا، وتوجيه الوعي الانتخابي نحو القبول بغياب البديل.