من حماية الدولة إلى تحصين السلطة| "الأمن القومي" تحول إلى فخ لاصطياد الصحفيين المصريين

السبت - 21 يونيو 2025

  • نظام السيسي يعيد تعريف "الأمن القومي" بما يمنع أي انتقاد للجهات العسكرية والأمنية
  • ترسانة قوانين تستخدم "الأمن القومي" ذريعة لقمع الصحفيين ومصادرة الحريات العامة
  • تحويل "الأمن القومي" إلى مفهوم فضفاض يبرر تشديد العقوبات ويمتد إلى الفضاء الرقمي
  • الصحافة تكتفي بإبراز الإيجابيات خوفًا من الوقوع تحت طائلة قوانين "الأمن القومي" القمعية

 

إنسان للإعلام- تقرير:

لا يختلف اثنان على أهمية حماية الأمن القومي في أي دولة، ولا على الدور المحوري الذي تضطلع به الصحافة الوطنية في صونه وتعزيزه. ففي الأنظمة الديمقراطية، تتكامل جهود مؤسسات الدولة كافة، بما فيها الإعلام، لتدعيم ركائز الأمن القومي عبر الشفافية وتداول المعلومات واحترام المعايير المهنية.

لكن في النظم الاستبدادية، ينقلب المشهد رأسًا على عقب؛ إذ يُستخدم ملف "الأمن القومي" كسلاح لقمع الصحافة الحرة، ويتحوّل إلى فزّاعة تُكبّل حرية تداول المعلومات، وتُستغل مواده في التشريعات القانونية كفخ للإيقاع بالصحفيين وملاحقتهم. في مثل هذه البيئات، لا تُصان حرية التعبير، بل تُصادر باسم "الأمن"، ويُزج بالمئات من الصحفيين خلف القضبان، كما هو الحال في مصر.

في هذا التقرير، نعرض مفهوم الأمن القومي ومقوماته، ونكشف عن القوانين المفخخة المرتبطة به في الحالة المصرية، كما نسلّط الضوء على الكيفية التي استخدم بها نظام السيسي هذا الملف لتقويض الحريات، ونرصد تعاطي الصحف والمواقع الإلكترونية مع هذا الواقع القمعي.

تعريف الأمن القومي ومقوماته:  

لا يوجد تعريف واحد متفق عليه لمفهوم "الأمن القومي"، إذ تدور معظم التعريفات حول ارتباطه بحماية الدولة من الأخطار الداخلية والخارجية.

ومن بين أبرز التعريفات الشاملة، يُعرّف الأمن القومي بأنه "جملة القيم النظرية والسياسات والأهداف العملية التي تهدف إلى ضمان وجود الدولة، وسلامة أركانها، واستمرار مقوماتها، واستقرارها، وتلبية احتياجاتها، وتأمين مصالحها، وتحقيق أهدافها، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة، داخليًا وخارجيًا، مع مراعاة المتغيرات على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية".

في السابق، كانت النظرة السائدة لمفهوم الأمن القومي ترتبط حصريًا بالقدرة العسكرية للدولة، باعتبارها الحصن الأساسي لحمايتها من الأخطار، لكن مع تطور المفاهيم الاستراتيجية، اتضح أن الأمن القومي يتجاوز الجانب العسكري ليشمل أيضًا الأبعاد السياسية والاقتصادية والعلمية.

وقد أصبح من المُسلّم به أن التركيز على البعد العسكري وحده لا يضمن الأمن، بل قد يُهدده، إذ لا يمكن لأي دولة أن تحقق أمنها وهي عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي القائم على العدالة والمساواة والتنمية.

ومن زاوية شمولية، يُعد انتهاك الحقوق والحريات، وغياب المبادئ الديمقراطية، وتفاقم الظلم الاجتماعي، والاستئثار بالسلطة، من أبرز العوامل التي قد تعرّض الأمن القومي للخطر، فالأمن الداخلي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن الخارجي، وقد يؤدي انعدام الاستقرار الداخلي في بعض الأحيان إلى تدخلات خارجية تهدد استقلال الدولة وسيادتها.

ويمكن القول إن السمة البارزة في تطور مفهوم الأمن القومي خلال العقود الأخيرة هي تراجع التهديدات العسكرية إلى مرتبة أدنى، أمام تصاعد تهديدات من نوع آخر، أبرزها الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية، التي أدت في بعض الحالات إلى تفكك دول بأكملها، كما حدث في السودان الذي انقسم إلى دولتين.

وعلى الصعيد الإجرائي، يتضمن مفهوم الأمن القومي عدة عناصر أساسية، أبرزها: سلامة أراضي الدولة، وتحقيق الانسجام الاجتماعي بين مكوناتها الطائفية والعرقية، وامتلاك قوة عسكرية رادعة، وبناء اقتصاد قوي قائم على التنمية المستدامة، وتوفير الاستقرار السياسي كشرط لازم لحماية الأمن الشامل للدولة.

وتتعدد أبعاد الأمن القومي وتتشابك، غير أنه يمكن إجمالها في ستة أبعاد رئيسية لا غنى لأي دولة عنها، ويتوجب الحفاظ عليها لضمان استقرار الدولة واستمرارها، وهي:

أولاً: البعد السياسي: يُعد هذا البعد أساسًا لحماية النظام السياسي في الدولة، ويشمل الحفاظ على الأمن والنظام العام ومؤسسات الدولة المختلفة. ويتحقق الاستقرار السياسي من خلال بناء نظام ديمقراطي يتيح مشاركة جميع المواطنين في صنع القرار والمساهمة في العملية السياسية بشكل فعّال.

ثانيًا: البعد الاقتصادي: يتمثل في حماية موارد الدولة وتطوير اقتصادها؛ بما يضمن تلبية احتياجات المواطنين الأساسية.

ويُعد الاقتصاد القوي شرطًا لتحقيق الأمن والاستقرار، إذ ترتبط القدرة على توفير فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة بالأمن القومي ارتباطًا وثيقًا.

ثالثًا: البعد العسكري: يرتبط هذا البعد بحماية الدولة من التهديدات والاعتداءات الخارجية، وضمان استقلالها وسلامة أراضيها.

 ويتطلب ذلك جيشًا محترفًا يتفرغ للمهام الدفاعية، دون التورط في الشأن المدني، حفاظًا على توازن السلطة وتماسك مؤسسات الدولة.

رابعًا: البعد الاجتماعي: يرتكز على توفير الأمن الاجتماعي والرفاهية وجودة الحياة للمواطنين، بما يعزز شعورهم بالانتماء والولاء للدولة، فكلما زاد شعور المواطن بالأمان والكرامة، زادت مساهمته في حماية مجتمعه واستقراره.

خامسًا: البعد القيمي: ويتمثل في صون هوية الدولة الثقافية والحضارية، والحفاظ على معتقداتها وقيمها وتقاليدها الأصيلة، بما يعزز الوحدة الوطنية ويُحصّن المجتمع من الغزو الثقافي أو التفكك القيمي.

سادسًا: البعد البيئي: يتعلق هذا البعد بقدرة الدولة على التعامل مع المخاطر البيئية التي قد تهدد أمنها واستقرارها، مثل التصحر، والجفاف، وندرة المياه.

 ويتطلب ذلك سياسات بيئية فعّالة لحماية الموارد الطبيعية وتقليل الأضرار التي قد تؤثر على السكان والمجتمع.

ومن خلال ماسبق نعلم أن النظام المصري لم ينظر للأمن القومي بأبعاده المتكاملة، وحصره فقطفي كيفية حماية النظام ورجالاته1.

تشريعات الأمن القومي في مصر:

على مدار العقد الماضي، وجدنا سنّ عدد من القوانين التي جعلت من ذكر "الأمن القومي" مرادفًا لحجب المعلومات وإعاقة الحريات الصحفية. ومن أمثلة ذلك، أن المشرِّع عندما وضع قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، نصَّ في المادة 34 منه على ضوابط إجرائية وموضوعية تتعلق بحالات وظروف تشديد العقاب، وتضمّنت تشديدًا عامًا لكافة العقوبات الواردة بالقانون، والتي تخص الأغراض التي تخلّ بالنظام العام أو الأمن القومي أو الوحدة الوطنية أو تعطيل أحكام الدستور، وكلها مصطلحات مطاطة ليس لها تفسير واضح في القوانين، وهي مرادفات ذات طبيعة استثنائية ارتبطت بشكل وثيق بحالات الإرهاب أو سريان حالة الطوارئ أو تعبير المعارضين عن آرائهم.

ومن المعروف أن استخدام مفاهيم مثل النظام العام والسلام الاجتماعي وغيرها من المصطلحات غير المنضبطة من حيث التطبيق القانوني في التشريعات، بدأ في الأحكام العرفية المنصوص عليها في قانوني عام 1923 و1954. وفي عام 1958، ومع إصدار قانون الطوارئ، بدأ استخدام مصطلحات فضفاضة كـ"النظام العام" و"الأمن القومي" بشكل موسّع في منظومة العدالة الجنائية. ومع ذلك، لم تُدرج تلك المصطلحات اللامعيارية في قانون العقوبات، لكن النظام الانقلابي توسّع في استخدام مثل هذه المصطلحات في التشريعات بهدف تقييد الحريات العامة والصحفية وحرية التعبير.

وفي ظل برلمانات السيسي المتعاقبة، استحدث المشرِّع نصوصًا تجريمية خاصة بالإرهاب، شملت العديد من المصطلحات والمفاهيم التي تحتاج إلى ضبط قانوني لتحديد الأركان المادية والمعنوية للجرائم المرتبطة بهذه المصطلحات العامة. وقد وجدنا أكثر من 180 نصًا قانونيًا في التشريعات المصرية تقيد الحريات الصحفية، منها ما يتعلق بمفهوم الأمن القومي واستقرار الدولة وأمنها.

ويتضح مما سبق أن الظروف المشددة المرتبطة بمصطلحات كالأمن العام والأمن القومي قد ظهرت دومًا في قوانين استثنائية. لذلك، ارتبط التشديد العقابي في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وقانون الإرهاب وتعديلاته، وقانون الاتصالات، وغيرها من القوانين، بتحقّق ظروف مشددة غير محددة النطاق من حيث التطبيق العملي والقانوني، وذات طبيعة خاصة واستثنائية2.

وقد أصبح من المتعارف عليه في عهد السيسي استخدام مفهوم الأمن القومي، سواء في الحوار الدائر في المجال العام أو في التشريعات، كذريعة لحجب المعلومات. فالتحجج بالأمن القومي هو المبرر الأبرز لحجب المعلومات والوثائق المتعلقة بإدارة الدولة، والتي يُفترض أن تكون متاحة لكافة المواطنين، باستثناءات محدودة ومضبوطة. وفي الوقت الذي يقر فيه الدستور المصري الحالي بحق المواطنين في الوصول إلى المعلومات، ويلزم السلطة التشريعية بإصدار قانون ينظم هذا الحق في أول دورة للبرلمان بعد تشكيله، فإن تسليط الضوء على العلاقة بين مفهوم الأمن القومي وبين الحق في الوصول إلى المعلومات، وعلى القواعد التي ينبغي أن تحكم استخدام الأمن القومي كمبرر لاستثناء بعض المعلومات وحمايتها، له أهمية كبيرة.

وهناك وثيقتان دوليتان هامّتان تفضحان المنظومة التشريعية المصرية فيما يخص استخدام الأمن القومي كفخّ لحرية الصحافة والتعبير، وهما: وثيقة مبادئ جوهانسبرج ووثيقة مبادئ تشواني، حيث تمثلان معيارًا لتقييم العلاقة بين مفهوم الأمن القومي والحق في الوصول إلى المعلومات في الواقع المصري، سواء في البيئة التشريعية (الدستور والقوانين) أو في الممارسات العملية لمؤسسات السلطتين التنفيذية والقضائية. ويتضح من خلال هاتين الوثيقتين مدى الفارق بين النظام المصري والدول الديمقراطية في استخدام المصطلحات كـ"الأمن القومي"، و"حماية الدولة"، و"الوحدة الوطنية"3.

الأمن القومي والعصف بالحريات:

من المسلم به عالميًا أن الحق في حرية التعبير هو حق إنساني أساسي يحظى بأهمية كبرى، وتشكل حرية التعبير والحريات الصحفية ركيزة أساسية لتمكين الأفراد والمجتمعات من الوصول إلى حقوقهم ومعارفهم.

 وفي الوقت نفسه، فإن هذا الحق ليس مطلقًا، بل يخضع لتنظيم في كل الديمقراطيات عبر أطر قانونية واضحة توازن بين صونه وبين مقتضيات الأمن القومي، وذلك من خلال إتاحة المعلومات، وضمان الشفافية، والتزام المؤسسات الإعلامية بالمعايير المهنية.

وقد أكدت ورقة بحثية نشرها موقع "الحرة" بعنوان "حرية التعبير والأمن القومي والقانون" أن أبرز ما يميز الدول الديمقراطية عن النظام المصري وغالبية الأنظمة العربية، هو وجود قوانين تحمي الدولة والفرد على حد سواء، فلا تستغل الدولة غياب التشريع لقمع حرية الصحافة والتعبير، ولا يستغل الأفراد هامش الحرية لتجاوز القانون أو تحقيق مصالح خاصة باسم التعبير الحر.

وأضافت الورقة أن نظام السيسي، شأنه شأن عدد من الأنظمة العربية، عمد خلال العقد الماضي إلى توظيف "الأمن القومي" كذريعة للحد من حرية التعبير، وكان للقضاء دور فاعل في تكريس هذا النهج من خلال تطبيق قوانين لا تحقق توازنًا حقيقيًا بين متطلبات الأمن القومي وحماية حقوق الإنسان، بما في ذلك حرية الصحافة والتعبير وفق ضوابط محددة.

كما شددت الورقة على أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يجيز فرض قيود معينة على الحقوق والحريات، ومنها حرية التعبير، شريطة أن تكون هذه القيود منصوصًا عليها في القانون، وأن تهدف إلى تحقيق مصلحة مشروعة، مثل حماية الأمن القومي.

وبيّنت الدراسة أن "الأمن القومي" يُعد في الدول غير الديمقراطية من أبرز المبررات لتقييد حرية التعبير، مشيرة إلى وجود ثلاثة أنواع من الخطابات التي تُعتبر مهددة للأمن القومي بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهي: خطاب التحريض، وخطاب الكراهية، والكلام المسيء4.

وفي هذا السياق، أقر الكاتب عماد الدين حسين، رئيس تحرير صحيفة "الشروق" وعضو مجلس الشيوخ المصري والمقرّب من النظام، في مقاله المعنون "هل هناك تناقض بين حرية الإعلام والأمن القومي؟"، بأن مصطلح "الأمن القومي" قد استُخدم لتقييد الحريات الصحفية، مشيرًا إلى أن المنع والحظر الإعلامي ربما كانا ممكنين في الماضي، لكنهما لم يعودا مجديين في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة.

 وأضاف أن من يتصور أن حجب المعلومات مفيد، سيكتشف سريعًا أن وسائل إعلام أخرى ستبادر إلى نشرها، وربما بأسلوب مشوَّه، مما يؤدي إلى عزوف الجمهور عن وسائل الإعلام المصرية، وهو ما يحدث بالفعل حاليًا.

وأوضح حسين أن الامتناع عن تغطية قضايا مثل تطورات سد النهضة أو الأوضاع في ليبيا والمنطقة العربية، يدفع الجمهور للجوء إلى وسائل إعلام معارضة بحثًا عن المعلومة، مما يُفقد الإعلام المصري ثقة المتلقي.

وأكد أن الحل لا يكمن في الحجب أو المصادرة باسم الأمن القومي أو الحفاظ على وحدة المجتمع، بل في إطلاق الحريات الصحفية، وضمان تداول المعلومات، مشددًا على أن الحريات تعني مزيدًا من الممارسة المهنية، وهذه الأخيرة – بطبيعتها – تضمن احترام مقتضيات الأمن القومي.

وأضاف أنه في حال خالفت وسيلة إعلامية أو صحفي هذه الضوابط، فهناك منظومة عقوبات مشددة أُقرت خلال السنوات الأخيرة.

وختم حسين مقاله بالتأكيد على أن المطلوب ببساطة هو ممارسة حرية مسؤولة في إطار القانون، مع ضمان تمتع الصحفيين بأقصى درجات التأهيل والتدريب والمهنية5.

الأزمات الأمنية والعسكرية خارج التغطية:   

على مدى العقد الماضي، أصبحت المعالجات الصحفية المرتبطة بملف "الأمن القومي" خاضعة بالكامل لإملاءات الرقيب الأمني داخل كل مؤسسة إعلامية، فلم يعد يُسمح للصحفيين أو الوسائل الإعلامية بتناول الأزمات الأمنية والعسكرية إلا وفق ما يُملى عليهم، لتتحول هذه القضايا إلى "مناطق محظورة" أو "محرمات" لا يجوز الاقتراب منها.

فعلى سبيل المثال، تجاهلت معظم الصحف المصرية الرسمية والمقربة من النظام، ما أوردته صحف ومواقع إلكترونية مستقلة ومعارضة بشأن تراجع ترتيب الجيش المصري عالميًا في تصنيف موقع "جلوبال فاير باور" لعام 2025 لأقوى جيوش العالم، حيث تراجع الجيش أربع درجات دفعة واحدة ليحتل المرتبة (19)  من أصل 145 دولة، بعد أن كان في المرتبة (15)  في العام السابق.

 كما تأخر عن ثلاثة جيوش في إقليم الشرق الأوسط هي: تركيا (9)، إسرائيل (15)، وإيران (16)، بالإضافة إلى جيشي باكستان (12) وإندونيسيا (13)، رغم الكم الكبير من صفقات السلاح التي أبرمها نظام السيسي خلال الأعوام المنصرمة6.

ومن المحرمات كذلك في التغطية الصحفية المصرية ملف النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وميزانيتها، تحت ذريعة "عدم المساس بالأمن القومي"، ففي الوقت الذي كشفت فيه تقارير دولية وصحافة عالمية – من بينها تقارير للبنك الدولي – أن الجيش يهيمن على ما يزيد على 60%  من الاقتصاد المصري، بل وأن صندوق النقد الدولي طالب صراحة بضرورة تخارج المؤسسة العسكرية من الاقتصاد المدني، التزمت الصحافة المصرية الصمت، ولم تقترب من هذا الملف إلا لتلميع دور الجيش في "مساعدة المواطنين" عبر تخفيض أسعار بعض السلع أو إنشاء أسواق تحت إشرافه.

وتحت العنوان العريض "حماية الأمن القومي واستقرار الدولة"، جرى أيضًا تجريم التطرق الإعلامي لانتهاكات الشرطة بحق المعتقلين، وفرض تعتيـم إعلامي كامل على ملفات التعذيب في السجون والاختفاء القسري7، رغم أن منظمات حقوقية دولية ووطنية وثّقت العديد من الحالات، بل بات هذا الملف أحد أبرز بنود الانتقاد في جلسات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن مصر.

وفي مقابل هذا التعتيم، تم الدفع بمنظومة إعلامية لا تقدم سوى الصورة الرسمية الممجدة للمؤسسات العسكرية والأمنية، من خلال عناوين ونماذج صحفية متكررة، نذكر منها:

  • "سمير فرج: القوات المسلحة صمام أمان للدولة المصرية" – الأهرام8
  • "الجيش المصري أكبر جيش في المنطقة" – اليوم السابع9
  • "الجيش المصري قوي وقادر على حماية الأمن القومي" – الدستور10
  • "أقوى جيوش العالم 2025: مصر تتصدر العرب وتركيا تسبق إسرائيل وإيران"11
  • "الشرطة المصرية.. تاريخ عريق وحاضر مشرف" – الأهرام12
  • "تضحيات وبطولات الشرطة لحماية مصر والمصريين مستمرة" – اليوم السابع13
  • "الشرطة المصرية مؤسسة وطنية حققت العديد من الإنجازات والتضحيات" – الدستور14

ويتضح من النماذج السابقة أن المعالجة الصحفية للأداء العسكري والأمني في مصر تنطلق من مبدأ الترويج والتمجيد فقط، دون أدنى مساحة لطرح التساؤلات أو نقد السياسات أو كشف أوجه القصور، سواء على المستوى المهني أو الحقوقي، وهو ما يجعل وسائل الإعلام المصرية أداة تبرير وتجميل بدلاً من أن تكون سلطة رقابية مستقلة.

وخلاصة القول، أن نظام السيسي الانقلابي تمكن خلال السنوات العشر الأخيرة من تحويل مصطلح "الأمن القومي" إلى أداة سياسية لقمع الحريات، مستندًا إلى شعارات مثل "استقرار الدولة" و"عدم المساس بأمن الوطن"، ليُخضع بذلك الصحافة لكامل وصايته، ويُصادر جوهر حرية التعبير، ويطلق يد الأجهزة الأمنية في ملاحقة أي صوت إعلامي يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها النظام بمعزل عن الدستور أو القانون.

في ضوء ما سبق، يتضح أن مصطلح "الأمن القومي" في مصر لم يعد مفهوماً قانونيًا أو سياسيًا يُستخدم في سياق حماية الدولة من التهديدات الفعلية، بل تحوّل إلى أداة سلطوية تُوظف لتكميم الأفواه، وتكبيل الإعلام، وتكريس رواية واحدة لا تقبل النقاش أو التعدد. وبدلًا من أن يكون الإعلام شريكًا في بناء الوعي وحماية الدولة من خلال الشفافية والمهنية، جرى تحويله إلى بوق رسمي يردد شعارات تمجيدية تخلو من أي مضمون نقدي أو استقصائي، حتى في القضايا التي تمس الأمن القومي الحقيقي، مثل قضايا السدود، الحدود، التسلح، والفساد داخل المؤسسات.

وتكمن المفارقة الصارخة في أن الدول الديمقراطية التي تواجه تهديدات أمنية حقيقية لم تمنع صحافتها من النقد والتحقيق والرقابة، بل اعتبرت حرية الإعلام أحد أهم مقومات الأمن القومي ذاته، وهو ما يكشف أن المشكلة في الحالة المصرية لا تتعلق بطبيعة "التهديد" بل بطبيعة النظام السياسي نفسه، ومدى استعداده لقبول الرقابة الشعبية عبر الإعلام الحر.

وعليه، فإن استعادة دور الإعلام في مصر كسلطة رابعة لا يمكن أن تتم دون فك الارتباط التعسفي بين الأمن القومي والحريات العامة، وسنّ تشريعات تضمن تداول المعلومات، وتحمي الصحفيين من التعسف، وتعيد الاعتبار لدورهم في فضح الفساد، وكشف الإخفاقات، وتقديم الحقيقة للمواطن، فالأمن القومي الحقيقي لا يتحقق بالرقابة والتعتيم، بل بالثقة، والمشاركة، والشفافية.

المصادر:

  1.  د. فرناز عطية أحمد ، "مفهوم الأمن القومي: التطور والأبعاد" ، المعهد المصري للدراسات، 6 يوليو 2022، https://linksshortcut.com/Fcisp
  2. "الأمن القومي والإضرار بالوحدة الوطنية كمبررات لتشديد عقوبات جرائم تقنية المعلومات" ، موقع مسار، 28أغسطس 2023      ، https://linksshortcut.com/dziBo
  3. "الحق في المعلومات والأمن القومي في مصر" ، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 20 أبريل 2016 ، https://linksshortcut.com/pkVgQ
  4. د. نجاة السعيد ، "حرية التعبير والأمن القومي والقانون" ، موقع الحرة، 12 مارس 2019، https://linksshortcut.com/RxBia
  5. عماد الدين حسين ، "هل هناك تناقض بين حرية الإعلام والأمن القومى؟"، الشروق ، 4 سبتمبر 2020 ، https://linksshortcut.com/NiUzy
  6. "ما حقيقة تراجع تصنيف جيش مصر عالميا وخسارته 10 درجات في 4 أعوام؟"، عربي21 ، 13 يناير 2025 ، https://linksshortcut.com/IZONl
  7. "الجيش المصري يسيطر على 60% من الاقتصاد"، الجزيرة نت ، 18يونيو 2014 ، https://linksshortcut.com/fAeji
  8. "سمير فرج: القوات المسلحة صمام أمان للدولة المصرية" ، الاهرام، 30 يونيو 2024 ، https://linksshortcut.com/SuuaV
  9. "الجيش المصري أكبر جيش في المنطقة" ، اليوم السابع ، 01 ديسمبر 2024 ، https://linksshortcut.com/qNJtC
  10. "الجيش المصري قوي وقادر على حماية الأمن القومي" ، الدستور، 9يناير2025 ، https://www.dostor.org/4919684
  11. "اقوى جيوش العالم 2025: مصر تتصدر العرب وتركيا تسبق إسرائيل وإيران" ، مصراوي، 13 يناير 2025 ، https://linksshortcut.com/ZhFZa
  12. "الشرطة المصرية.. تاريخ عريق وحاضر مشرف" ، الاهرام، 27 يناير 2024 ، https://linksshortcut.com/CnucZ
  13. " تضحيات وبطولات الشرطة لحماية مصر والمصريين مستمرة" ، اليوم السابع  ، 6 يناير 2019 ، https://linksshortcut.com/jiBvl
  14. "الشرطة المصرية مؤسسة وطنية حققت العديد من الإنجازات والتضحيات" ، الدستور ، 24 يناير 2023