استقصائي " هند رجب".. هل يؤسس لتوثيق "هولوكوست" غزة ؟!

الخميس - 20 نوفمبر 2025

  • من سردية محصَّنة إلى حقيقة موثَّقة: فيلم هند رجب يكشف الإبادة ويعرّي القتلة
  • قصة "هند" تهزّ ضمير العالم.. وتحرك المطاردة الحقوقية لسَرِيّة "مصّاصي الدماء"
  • أدلة الجريمة بصوت القتلة وعدساتهم.. والتوثيق يقودهم إلى بوابة "الجنائية الدولية"

 

(إنسان للإعلام)- حنان عطية:

تظل السردية الإعلامية التي تقف وراءها منظمات حقوقية وآلة رسمية تحقّق نوعًا من الانتشار الواسع وصناعة القناعات المستمرة لدى الرأي العام ذات تأثير بالغ، وهو ما حدث مع ما يُعرف بالهولوكوست الخاص باليهود خلال الحرب العالمية الثانية. فقد ترسخت تلك الرواية في الوعي الغربي لتتحول إلى مثال على كيف تتحول جريمة إلى سردية محصّنة إعلاميًا وسياسيًا، ولم ينجح أي خطاب سياسي أو إعلامي في زحزحتها عن مكانتها المركزية، بفضل عمليات التوثيق التي رافقتها حتى أصبحت جزءًا من الهوية الأوروبية الحديثة.

وقد وظّفت الآلة الإعلامية الصهيونية هذه السردية لخدمة أهدافها الاستراتيجية، واتخذتها وسيلة ومبرّرًا لابتزاز العالم تحت مسمى "معاداة السامية" و"الإرهاب الدولي"، وذريعة لجذب تعاطف المجتمع الدولي وتبرير القتل والعدوان على الشعب الفلسطيني.

ولذلك فإن ما يقلق الاحتلال الصهيوني دائمًا وصف الإعلام لما يقع في غزة بأنه "هولوكوست ضد الشعب الفلسطيني"، خاصة أن ما يجري من إبادة جماعية في القطاع يتم أمام كاميرات الإعلام وشاشات الفضائيات، وتنقله وسائل التواصل الاجتماعي لحظة بلحظة، مما جعل العالم كله لا يحتاج جهدًا ليصف ما يحدث بأنه "هولوكوست جديد" يقع على مرأى ومسمع الجميع، وبما يدعم مصداقية الرواية الفلسطينية.

وكانت قصة الطفلة هند رجب، التي وثّقت أحداثها مؤسسات حقوقية وإعلامية، علامة بارزة ومحددًا واضحًا للتأكيد على صحة السردية الإعلامية والحقوقية لما يقع داخل قطاع غزة من انتهاكات وجرائم إبادة جماعية، وثّقتها عدسات القتلة أنفسهم، لتتحول بعدها إلى سردية إعلامية جديدة تؤكد على هولوكوست جديد.

وقائع القصة كاملة

بدأت القصة — الرمز — من داخل سيارة كانت عالقة بين دبابات صهيونية في حي تل الهوى جنوب غربي مدينة غزة، حيث ظل صوت الطفلة هند رجب، ذات السنوات الست، يتردد عبر سماعة الهاتف وهي تقول بصوت مرتجف: "أنا خايفة.. حدا يجي ينقذني".

كانت تلك الكلمات آخر ما سمعته والدتها قبل أن ينقطع الصوت وتغيب هند إلى الأبد، لتتحول قصتها إلى رمز عالمي للبراءة المهدورة. وقد تحولت مأساة هند من قصة محلية إلى رمز إنساني عالمي يجسد معاناة الأطفال في الحروب، وأثارت المشاهد الحقيقية من فيلم "أغمضي عينيك يا هند" تفاعلًا واسعًا في العالمين العربي والغربي.

وليسَت قصة هند استثناءً في غزة، لكنها تظل علامة فارقة في الذاكرة الفلسطينية والعالمية، إذ سجلت بالصوت والصورة لحظة التلاشي بين الحياة والموت حين قالت الطفلة للعالم: "حدا يجي ينقذني"، ولم يأتِ أحد.

ولا شك أن فيلم "أغمضي عينيك يا هند" — الذي أنتجته منصة "الجزيرة 360" — قد أعاد إحياء قصة الطفلة بمشاهد واقعية مؤلمة توثق الساعات الأخيرة من حياتها قبل أن تُعدم برصاص الاحتلال الإسرائيلي بدم بارد هي وأهلها داخل السيارة.

وفي صباح يوم 29 يناير 2024، استيقظت هند داخل خيمة نزوح أقامت فيها عائلتها شهورًا بسبب حرب الإبادة على قطاع غزة. وقرر بعض أفراد الأسرة العودة لمنزلهم بحثًا عن حماية مؤقتة من القصف، فركبت هند سيارة مدنية تقل عددًا من أقاربها وأطفالهم. لكن الرحلة القصيرة انتهت بمأساة حين حاصرتهم دبابات الاحتلال وفتحت نيران رشاشاتها مباشرة بأكثر من 335 رصاصة وفق تحقيقات الهلال الأحمر الفلسطيني، ليستشهد كل من كان في السيارة باستثناء هند وابنة خالها ليان حمادة (14 عامًا)، حيث بقيتا على قيد الحياة لوقت قصير داخل المركبة المحطمة.

تمكنت ليان من الاتصال بطواقم الهلال الأحمر وهي تبكي وتستغيث لإنقاذهما، لكن الاتصال انقطع بعدما استهدفت الدبابات السيارة مجددًا، فقُتلت ليان على الفور، لتبقى هند محاطة بجثامين عائلتها، تتشبث بصوت أمها عبر الهاتف وهي تقول: "يا ماما الكل مات، ما تسكري الخط، خليكي معي". وحاولت الأم تهدئتها ووعدتها بأن فرق الإنقاذ قادمة. واستمرت المكالمة نحو 70 دقيقة، حتى انقطع صوت هند فجأة، تاركة والدتها تغرق في صمت الفقد.

وانتشر تسجيل هند على نطاق واسع، وتحول وسم #أنقذوا_هند_رجب إلى نداء عالمي. وفي أثناء استعداد فرق الإسعاف للوصول إليها، تعرّض طاقم الهلال الأحمر لهجوم مباشر من جيش الاحتلال، مما أدى إلى مقتل مسعفين كانوا على بُعد أمتار من موقع السيارة، لينقطع آخر خيط أمل لإنقاذ الطفلة.

هوية القتلة

بعد أسابيع من الجريمة، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تحقيقًا استقصائيًا يستند إلى صور أقمار صناعية وشهادات ميدانية، أكد وجود أربع مركبات عسكرية إسرائيلية على بُعد أقل من 300 متر من السيارة أثناء الهجوم، دون وجود أي اشتباك أو خطر يبرر إطلاق النار، مما يثبت أن الاستهداف كان متعمدًا ومباشرًا.

وفي مايو 2025، أعلنت مؤسسة "هند رجب" — التي تأسست مناصرة لرمزية القضية — تقديم شكوى جريمة حرب إلى المحكمة الجنائية الدولية بعد تحديد الوحدة العسكرية المسؤولة والقائد الذي قاد عملية قتل هند.

وفي تحقيق استقصائي لبرنامج "ما خفي أعظم"، ثبت أن الكتيبة 52 التابعة للواء 401 هي المنفذ المباشر للجريمة، بقيادة الكولونيل دانييل إيلا. وكانت المفاجأة الكبرى تحديد السرية المسؤولة ميدانيًا، التي تحمل اسمًا صادمًا: "إمبراطورية مصاصي الدماء"، ويقودها الضابط شون جلاس، الذي يتباهى — حسب مقاطع داخلية — بأنه يقود جنوده "من دون انتظار الأوامر"، ويصفهم بأنهم "وحوش لا تعرف التراجع".

كما قدم البرنامج وثيقة مسربة تضم قائمة بنحو 30 ألف طيار وعضو في سلاح الجو الصهيوني المنخرطين في حرب غزة، إضافة إلى أدلة تثبت أن الضابط شون جلاس أمر من دبابته بقتل هند رجب وعائلتها والمسعفين.

وأوضحت مؤسسة هند رجب أن سرية "إمبراطورية مصاصي الدماء" تضم جنودًا متعددي الجنسيات وارتكبوا جرائم ضد المدنيين، إضافة إلى الهجوم على مستشفى الشفاء. كما أكدت تورط الجندي الصهيوني شيمون زوكرمان والكتيبة الهندسية التي ينتمي إليها في تفجير أبراج سكنية كاملة قرب مستشفى القدس بحي تل الهوى، ثم تفجير مسجد "الإصلاح" ومنزل مجاور له، قبل الانتقال إلى خزاعة حيث نفذوا عمليات تفجير واسعة.

شهدوا على أنفسهم

كثير من الجنود الصهاينة نشروا جرائمهم في غزة متفاخرين بما اقترفوه من قتل وتدمير، دون أن يدركوا أنهم يقدمون للعالم أدلة إدانتهم. من بينهم "شيمون زوكرمان" من اللواء 551 في سلاح الهندسة، الذي صوّر نفسه يفجر منازل الفلسطينيين في خزاعة. ولم يتوقع أن تتحول تلك المقاطع إلى أدلة تقوده للمحاكم.

وقد حملت مستشارة قانونية ألمانية ملف زوكرمان ورفعت دعوى ضده أمام القضاء الألماني لكونه يحمل الجنسية الألمانية، بتهم ارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، واعتمدت على مقاطع الفيديو التي نشرها كأدلة دامغة.

ومع نهاية رحلة التحقيق يعود البرنامج إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، حيث تتراكم الملفات وتتسع قائمة المتهمين. فقد رُفعت أكثر من ألف قضية حتى الآن ضد جنود وضباط صهاينة، وبعضها وصل إلى المحاكم الأوروبية والأميركية.

آلية الرصد والتوثيق

يشرح مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في غزة، علاء السكافي، أن الباحثين الميدانيين لمؤسسته والمؤسسات الحقوقية الأخرى يجمعون الشهادات المشفوعة بالقسم من الضحايا وشهود العيان حول جرائم الإبادة، ويتم توثيقها بدقة.

وتُجمع الشهادات والإفادات، إضافة إلى الفيديوهات الموثقة من الصحفيين والمواطنين، ويتم تحديد مواقع الاعتداءات عبر نظام "جي بي إس"، وجمع كل المعلومات الشخصية وتحديد الجهات المعتدية وأنواع الأسلحة المستخدمة.

أما كيفية تحويل السجلات إلى دعاوى دولية، فيوضح أنها تتم عبر الرابط الذي أطلقته المحكمة الجنائية الدولية لتقديم المعلومات، كما حدث في قضية قتل الصحفيين في مستشفى ناصر بخان يونس في أغسطس 2025.

وتُرسل الوثائق أيضًا إلى المقررين الخواص في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان. وقد أعدت مؤسسة الضمير ملفًا حول ضحايا التعذيب والقتل في المعتقلات الصهيونية، إضافة إلى إرسال نداءات عاجلة حول القتل خارج القانون، والحق في الصحة، والاختفاء القسري، والاحتجاز التعسفي، والجرائم ضد الأطفال.

والسؤال المفتوح الآن: هل تكون عملية توثيق قصة هند رجب بداية حقيقية لمرحلة جديدة من التوثيق الإعلامي والحقوقي الواسع، الذي يحمل على عاتقه نشر المعاناة وكشف حجم الجرائم التي وقعت في قطاع غزة وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، خصوصًا من النساء والأطفال؟